في التاسع من ديسمبر/كانون الأول، اليوم التالي مباشرة لدخول مسلحي "هيئة تحرير الشام" إلى دمشق وإسقاط نظام بشار الأسد، ألقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في أنقرة، ما يمكن اعتباره "خطاب النصر"!
قال أردوغان، في تصريحات له بعد انتهاء اجتماع الحكومة التركية برئاسته بالعاصمة أنقرة، يوم التاسع من ديسمبر/كانون الأول: "اعتبارًا من الأمس، تم إغلاق مرحلة الظلام في سوريا، وبدأت مرحلة النور. اكتسبت سوريا بُعدًا جديدًا في تاريخها، بعد أن سيطرت المعارضة السورية على كل البلاد بما فيها دمشق. وتم هدم ديكتاتورية البعث التي كانت تحكم سوريا منذ 61 عامًا".
وأضاف، أن "تركيا ليست لديها أطماع في سوريا. سوف نفتح المعابر الحدودية من أجل أن يعود هؤلاء اللاجئين الذين يريدون العودة لأوطانهم، وبالتالي نكون قد قدمنا لهم هذه الضيافة الصالحة، ولا يمكن لأحد أن ينتقدنا بهذه الوظيفة الإنسانية".
ورغم استخدام الرئيس التركي لصفة "الإنسانية" في تصريحاته هذه، كأول رئيس دولة يُعلق على ما حدث، فإنه لم يتطرق إلى ما تفعله فصائل المرتزقة المسلحة الموالية، من تقتيل وتدمير وتهجير قسري في المناطق ذات الأغلبية الكردية، وما إذا كانت مثل هذه الجرائم الموثقة تتفق مع المبادئ "الإنسانية" حقًا، أم أنها جرائم ضد الإنسانية؟
مع أن سوريا تعيش منذ الثامن من ديسمبر/كانون الأول، أجواء حرية لم تعرفها البلاد منذ 54 عامًا، هي عمر حكم "آل الأسد"، إلا أن هذا الحدث التاريخي تزامن مع هجمات عسكرية يبدو أنها مُدبّرة سلفًا، تشنها فصائل المرتزقة الموالية لتركيا ضد المناطق الكردية الخاضعة لحكم الإدارة الذاتية، من أجل تحقيق هدف أنقرة الاستراتيجي الذي تخطط له منذ سنوات، وهو القضاء على الإدارة الذاتية، ونزع سلاح قوات "قسد" الكردية- العربية.
ولذلك، كانت تركيا السباقة لزيارة "سوريا الجديدة" عبر وفد رفيع ترأسه رئيس جهاز استخباراتها إبراهيم كالن، الذي صلى في الجامع الأموي، متوجهًا له في سيارة كان يقودها أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقًا) بنفسه، في إشارة ذات دلالة ورسالة في عدة اتجاهات.
قبل ذلك، بدا جليًّا للقاصي والداني، أن الأطماع التركية تكشف عن وجهها القبيح، عندما أبدى زعيم "حزب الحركة" القومية اليميني المتطرف، دولت بهتشلي، حليف أردوغان، فرحته الشديدة بسقوط حلب في أيدي رجال الجولاني، معتبرًا أن ذلك هو "شعور كل تركي"، ومعللًا إيّاه بأن حلب "تركيّة حتى النخاع"، مطالبًا الجميع بالعودة إلى حقائق التاريخ والجغرافيا!
التدخلات التركية السافرة في الشأن السوري الداخلي لم تتوقف عند هذا الحد، فقد صدرت تصريحات أخرى تؤكد ذلك من المسؤولين الأتراك أنفسهم. وأعلن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، مؤخرًا، أن القضاء على ما يسميه "الميليشيا الكردية السورية"، هو "الهدف الاستراتيجي" لبلاده في سوريا.
وقال فيدان: "يجب على أعضاء وحدات حماية الشعب غير السوريين مغادرة البلاد في أسرع وقت ممكن. يجب على مستوى القيادة بوحدات حماية الشعب بأكمله مغادرة البلاد أيضًا. بعد ذلك، يجب على من يبقوا أن يلقوا أسلحتهم ويواصلوا حياتهم".
والسؤال الذي طرح نفسه الآن على الجميع، هو: كيف يعطي النظام التركي لنفسه الحق في التدخل بالشأن السوري، بهذه الطريقة السافرة، وسط صمت دولي وإقليمي، وتقاعس حتى عن "إدانة" تلك التدخلات؟
وليّت الأمر توقف عند التدخل بالتصريحات، بل إنه تعدى ذلك إلى إطلاق "التهديدات" الصريحة لقوى وطنية وحدودية سورية، من المفترض أنها تحتكم إلى السيادة الوطنية، وألا يمر أي قرار بشأنها إلا من خلال الحوار الوطني، الذي من شأنه أن يقود إلى التوافق على الأوضاع الجديدة في البلاد، وليس من عاصمة دولة مجاورة!
ولا يمر يوم، دون أن تطالعنا المواقع الإخبارية ومحطات التلفزة بحديث عن "عملية عسكرية" تركية يجري الإعداد لها حاليًا في أنقرة، بالتنسيق مع فصائل المرتزقة المسلحين، من أجل الهجوم على مناطق جديدة في الشمال السوري تقع ضمن سيطرة الكرد.
أحدث سقوط نظام بشار الأسد تغيرات كبيرة في خارطة المنطقة، ربما لسنوات طويلة قادمة، وأعاد رسم الحدود وخطوط التماس بين القوى الإقليمية والدولية، بين خاسرين ورابحين وأطراف قلقة، وأخرى تنتظر الدور في سوريا، لتبرز تركيا كأحد أبرز الفائزين والفاعلين على الأرض.
وتأكيدًا على ذلك، ذكرت مجلة "فورين أفيّرز" الأمريكية، في تقرير لها مؤخرًا، أن نبأ سقوط بشار الأسد أثار قلقًا شديدًا في أغلب العواصم في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، لكن أنقرة ليست من بين هذه العواصم. فبدلًا من القلق بشأن آفاق مستقبل سوريا بعد أكثر من عقد من الصراع، يرى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان "فرصة تاريخية" في مستقبل سوريا ما بعد الأسد. فمن بين كل اللاعبين الرئيسيين في المنطقة، تتمتع أنقرة بأقوى قنوات الاتصال وتاريخ العمل مع الجماعات المسلحة التي تتولى السلطة الآن في دمشق، الأمر الذي يجعلها في وضع يسمح لها بجني فوائد زوال نظام الأسد.
ومع سقوط الأسد، وتراجع النفوذ الروسي والإيراني، وتحول الديناميكيات العامة في سوريا لصالح تركيا، فإن أنقرة كانت أول الرابحين مما حدث، لكونه مكسبًا سياسيًا كبيرًا لها. فهي ترى فرصة تاريخية لتعزيز مصالحها الجيواستراتيجية، واكتساب ميزة على الآخرين من أجل الهيمنة الإقليمية، وإنهاء التجربة السياسية التي تقوم عليها الإدارة الذاتية، وهي تسعى جاهدة إلى وضع نفسها على أتم استعداد لتحقيق هذا الغرض.
ولكن، ليس في وسع أردوغان وحكومته تجاهل الموقف الأمريكي من هذا المخطط الخطير، الذي سيؤدي إلى المزيد من التدهور في أوضاع منطقة الشرق الأوسط برمتها، خصوصًا أن الأمر يتزامن مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. فقد علّق ترامب على الأحداث في سوريا بأن "تركيا تملك المفتاح"، غير أنه وصف ما حدث بأنه "استيلاء غير ودي".
كما أن "استيلاء" أنقرة على مقاليد الأمور في دمشق، كراعٍ أساسي للحكم الجديد، أدى إلى تدهور علاقات تركيا مع عدة أطراف إقليمية ودولية غير راضية عما حصل، كل لأسبابه، وفي مقدمتها روسيا وإيران، وبعض الدول العربية. فقد ركز الخطاب الإعلامي في كل من موسكو وطهران في الأيام الأولى للعملية العسكرية على فكرة "خديعة" تركيا لهما، ووصل الأمر بالمنظّر الروسي المعروف ألكسندر دوغين لتهديدها بدفع الثمن، فضلًا عن عودة خطاب بعض الدول العربية للتحذير من تلك الأطماع التركية.
أخيرًا، فإن أفضل نتيجة لسوريا بعد سنوات من المعاناة، هي دولة قوية ومستقرة تركز على إعادة بناء البلاد التي مزّقتها الحرب، والوصول إلى توافق بين مختلف القوى السورية دون تدخلات خارجية. ولكن إذا تورط حكام سوريا الجدد في دوامة التنافس الإقليمي، بتحالفهم مع تركيا ضد مواطنين سوريين، فقد تنتظر البلد مستقبلًا لا يختلف كثيرًا عن ليبيا، حيث أدّت المنافسة بين القوى الأجنبية الخارجية، إلى تفتيت البلاد وإطالة معاناتها، إلى أجل غير مسمى.
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية