أزمة التصورات الذهنية المغلوطة وتداعياتها على النسيج المجتمعي السوري

- 21 يونيو 2025 - 6 قراءة

تعمدت السلطات السورية منذ عقود من الزمن بشكل ممنهج على تشكيل تصورات ذهنية مغلوطة لدى الشارع السوري. عبر تصدير جملة من التصورات المشوهة والمغلوطة عن حقيقية وجوهر كل مكون من مكونات المجتمع السوري سواء على أساس طائفي أو ديني أو مذهبي أو عرقي. جملة هذه التصورات تشوبها قيم ومعايير منافية للقيم الأخلاقية المجتمعية سواء العرفية منها أو الدينية ومناقضة للقيم والمبادئ الأخرى، وبل أكثر من ذلك تكون بمثابة تابوهات غير قابلة للنقاش أو التفكير بها سواء بحكم العرف أو الدين. على سبيل المثال الكرد ملاحدة أو أبناء الجن أو عملاء، اليزيديين من عبدة الشيطان أو النار. الدروز من عبدة العجل والقائمة تطول. وكل ذلك رياءً وبهتانًا بكل تأكيد.

بهذه الطريقة تمكن النظام السابق ذو الذهنية البعثية من تشكيل النسيج الذهني لدى المواطن السوري. وذلك بإصدار أحكام مسبقة على الآخر المختلف سواء في العقيدة أو الثقافة أو العرق.  وفي الكثير من الأحيان كان المواطن  يتجنب الاحتكاك مع الآخر المختلف وبعض الأحيان تصل إلى حد القطيعة تجنبًا للنبذ الاجتماعي بحكم العرف أو الغضب الإلهي وفق أدبيات الدين السياسي. تحريم شراء محاصيل من أصحاب الديانة الإيزيدية. وأكل طعام المسيحيين وغيرهم من أصحاب حتى الديانة المسلمة من مذاهب مختلفة، بحكم أنها ليست حلال.

 وكل ذلك تم وبشكل ممهنج بهدف حماية سلطته واستمراريتها. هذه السياسية كانت ضمن الاستراتيجية السياسية المستندة والمتكئة على سياسة (فرق تسد)، التي اتبعها النظام البعثي على مدار عقود من الزمن. ويمكننا القول بأن تلك السياسة أسهمت بشكل أو بآخر على خلق شرخ بين مكونات المجتمع الواحد، وبات من الصعوبة بمكان ردمها بسهولة. وخلقت جوًا يسوده انعدام الثقة وتشكيل إرهاصات بذور ثقافة الكراهية والعنصرية. ربما يرجع السبب الرئيسي لعدم طفو هذه المشاعر المشحونة بالكراهية والعنصرية والحقد خلال العقود الماضية إلى القبضة الأمنية. بكل بد هذه النظرية تسري على كافة شرائح الشعب، هناك شريحة  على الرغم من حنكة هذه الاستراتيجية لم تقع في شباكها، حيث لعبت هنا عملية التفاعل الاجتماعي وعامل المعرفة دورًا بارزًا. أما الغالبية والتي كانت منساقة وراء عقلية النظام وقعت في مصيدته بسبب غياب الوعي وتسيد الجهل وربما أحيانًا بعض هذه الأفكار كانت منسجمة مع عقيدته ومنظومته الفكرية. ولا ننسى أيضًا عامل المنفعة من النظام البعثي.

هذه السياسة حققت نجاحات مرحلية ووقتية تمكن من خلالها النظام البعثي من إحكام قبضته على الشارع السوري، والحفاظ على كرسي السلطة. لكون هذه الثقافة والمقاربات مصطنعة ولا تنتمي إلى حقيقة وجوهر المجتمع السوري، والذي كان النظام البعثي أول ضحايا هذه السياسة، والتي إنكوى بنارها بعد 2011.  ولكن لعوامل تتعلق بالظروف الداخلية والتطورات الإقليمية والدولية استغلها النظام البعثي على مدار أربعة عشر عامًا على تصدير وتغذية الشارع بكم كبير من مصطلحات جديدة من قبيل انفصاليين، إرهابين، عملاء وغيرها من المصطلحات. حتى بات من يدعي الثقافة قبل الجاهل يرددها من دون تمحيصها ونقضها. وفي الجانب الآخر ثمة من كان يدعي المعارضة والمتشرب من الثقافة ذاتها وترديدها بنفس الآلية والمنهجية حيال أخيه السوري الآخر الذي يمتلك منظومة فكرية مغايرة لتجاوز الأزمة السورية والإتيان بحلول تتلاءم مع طبيعة وخصائص المجتمع السوري. هنا ظهرت لنا إشكالية أساسية وهي الخلط بين الثورة وبين الصراع على السلطة. وهو ما قادنا إلى طرح إشكالية وسؤال جوهري مفاده، هل الثورة السورية انتهت وحققت مبتغاها وأهدافها بعد رحيل الأسد؟ أم مازالت تعيش مخاض ولادة عسيرة "ثورة حقيقية" أم اجترار الأزمة بلبوس جديد؟

اليوم، إلى جانب المصطلحات السابقة غزت الشارع السوري مصطلحات أخرى من قبيل "تكويع" فلول النظام. من يحرر يقرر. وإن كانت البداية مبشرة لعملية الانتقال السلسل للسلطة، وهنا يعود الفضل للتفاهمات الدولية والإقليمية التي تمت بعملية استلام وتسليم، من دون إراقة الدماء. إلى جانب حالة الصدمة للشارع السوري الذي يعيش التطورات المتسارعة التي فاقت التصورات والسيناريوهات المتوقعة. عامل الصدمة والمفاجأة كان كفيل بسيادة حالة الهدوء. الكل كان في حالة ترقب وحذر، ورويدًا رويدًا خرجت هذه المشاعر المشحونة بالحقد والكراهية والانتقام. والتي عبرت هذه المرة من دون رقيب ولا حسيب، مستغلة حالة الفراغ الأمني. صحيح أنه سقط نظام الأسد وتم الإعلان عن حل حزب البعث، لكن ما يعيشه الشارع السوري من تحريض وعنصرية وكراهية وحتى طريقة وصياغة الإعلان الدستوري وتشكيل اللجان والتعينات، يؤكد لنا حقيقة ثابتة لا تقبل الشك بأن البعث يحيا بكل تجلياته في عقل ووجدان شريحة واسعة من الشارع السوري، وإن رحل البعث ولكن عقليته وذهنيته لا زالت متسيدة من جاء بعده. وما يحدث الآن ما هو إلا انعكاس لتلك الاستراتيجية والعقلية البعثية بكل تجلياتها وإن كانت بمسمات مختلفة.

لذا، حتى نتمكن من الحفاظ على النسيج المجتمعي ومنع حرب أهلية وبالأحرى وقفها، والانتقال بسوريا إلى بر الأمان والحفاظ على مبادى الثورة السورية وتحقيق أهدافها، يتطلب من النخب وضع استراتيجية تعيد النظر عبر إحداث ثورة حقيقية  في عالم المصطلحات والتصورات الذهنية المغلوطة والمشوهة التي أصبحت جزءًا أصيلًا من النسيج الفكري، وإعادتها إلى نصابها الصحيح.

دون ذلك ستبقى سوريا رهينة الفوضى وانعدام الاستقرار والأمان. وإن فرض عليها الاستقرار النسبي بالقبضة الأمنية ولكنها ستبقى متقدة تحت الرماد، وستطلق الشرارة ثانية متى ما سنحت لها الفرصة وطفت على السطح. خطرها لن يتوقف على الداخل السوري في الظل الانفتاح والعولمة بل سيشمل المنطقة ولربما سيكون له تداعيات دولية بنفس الوقت. والجميع يدرك ومتيقن هذه الحقيقة. لذا، سارعوا نحو الانفتاح على سوريا لاحتوائها وتجنب مخاطرها أو على الأقل إبقائها تحت السيطرة، وليس القبول بما هو موجود. على أنها الحقيقة، وأنها على صواب كما يشاع، أو من يحاول تسويق ذلك.

لذا، المعضلة هي سوريا والحل يجب أن يكون سوريًا. وسلوكياتنا ما هي إلا انعكاس لتصوراتنا الذهنية. والبداية يجب أن تبدأ من هنا. المسار الحقيقي للثورة هو ثورة على المفاهيم والتصورات. سوريا لم تتجاوز مرحلة الثورة مالم تحقق ثورة فكرية ومجتمعية. بهذه العلاقة الديالكتيكية بين الثقافة والمجتمع ثمة معايير تقييم لنجاح الثورة السورية من عدمها. هذه النتيجة تحددها نوعية الثقافة وفلسفة الحوكمة، والإجابة على السؤال الأساسي الذي هو، كيف سنعيش معًا.

 

*ممثلة مجلس سوريا الديمقراطية - القاهرة

النشرة الإخبارية

اشترك في النشرة الإخبارية

ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية

معلوماتك فى امان معنا! إلغاء الاشتراك في أي وقت.