في السياسة كما في التاريخ، لا تعني الكلمات ما تقوله فقط، بل ما تحجبه أيضًا. من هنا يمكن قراءة تصريح الرئيس الإيراني الجديد، الذي أعاد تفسير شعار "الموت لأميركا" بأنه لا يخص الشعب الأميركي أو المسؤولين، بل يستهدف "الظلم والقتل والجرائم"، بوصفه أكثر من مجرد مراوغة خطابية. إنه إعلان ضمني عن اضطرار سياسي، واعتراف خجول بأن الشعارات الثورية التي بُنيت عليها الجمهورية (الإسلامية) الإيرانية بدأت تستنزف جدواها.
منذ عام 1979، كان شعار "الموت لأميركا" هو النبض الأعلى لصوت الثورة الإيرانية. لم يكن مجرد ترديد شعبي، بل عقيدة سياسية وهوية نفسية، وجدارًا عقائديًا يفصل النظام عن خصومه في الداخل والخارج. هو الشعار الذي رسم حدود العداوة مع "الشيطان الأكبر"، وكان حضوره في المشهد الإيراني أشبه ببيعة يومية للثورة، من المدارس إلى المنابر، ومن الإعلام إلى الحرس الثوري.
لكن العالم تغيّر، وإيران تغيّرت، حتى لو أنكرت ذلك. فالاقتصاد المنهك، والعملة المنهارة، والانقسام الداخلي، والنزيف الاجتماعي، جميعها عوامل فرضت على القيادة الإيرانية معادلة جديدة: إما التخفيف من حدة المواجهة، أو الانفجار من الداخل. ولعلّ التصريح الرئاسي الأخير هو أوضح تعبير عن هذه المعادلة. إذ تسعى إيران، من خلال إعادة تفسير الشعار، إلى تخفيف الكلفة السياسية لعقيدتها الثورية، من دون التنازل عنها صراحة. إنها محاولة للحفاظ على الشعار كقشرة خارجية، مع تجويف مضمونه من الداخل.
وهنا تظهر البراغماتية الإيرانية في أوضح صورها: خطاب مزدوج يوجّه رسائل متضادة لجمهورين مختلفين. للخارج، تقول طهران إن العداء ليس أعمى، وإن هناك استعدادًا للحوار. وللداخل، تقول إن الشعار باقٍ، وإن الثورة لا تزال حيّة. هذا التوازن الهش بين الرمزية العقائدية والضرورات الواقعية يعكس مأزق الجمهورية الإسلامية في مرحلتها الحالية: كيف تُغيّر من دون أن تعترف بالتغيير؟ وكيف تتراجع من دون أن تبدو مهزومة؟
لكن هذا التحول الخطابي، رغم رمزيته، لا يرقى إلى مستوى التحول الاستراتيجي. فلا تزال المؤسسات المتشددة، وعلى رأسها الحرس الثوري، متمسكة بخطاب الصدام والمواجهة، وتواصل إيران سياستها الإقليمية في ملفات ساخنة كاليمن وسوريا ولبنان، حيث تُتهم بدعم وكلاء يهددون الاستقرار. كما أن الخطاب الديني الرسمي لم يُظهر أي استعداد للتخلي عن الشعارات الكبرى التي تُعطي للنظام شرعيته.
وهنا تُطرح أسئلة جوهرية:
هل تسير إيران نحو إعادة تعريف موقعها في العالم، أم أنها تحاول فقط إعادة توضيب واجهتها الخطابية لتناسب إيقاع المرحلة؟
هل هو تكيّف ذكي مع التحولات الجيوسياسية في المنطقة، خصوصًا في ظل تراجع الانخراط الأميركي وإعادة تموضع قوى الخليج، أم هو مجرد تكتيك مؤقت لتخفيف الضغط الدولي واستئناف المفاوضات النووية؟
الراجح أن إيران تقرأ المتغيرات وتفهم لغة البراغماتية، لكنها لا تزال حبيسة بنية سياسية-عقائدية تُصعّب عليها الانعطاف الحاد. هي تتحرك، نعم، لكنها تتحرك ضمن هوامش ضيقة، وتحت رقابة داخلية صارمة، خشية أن يفهم التراجع كخيانة للثورة.
لكن ما لا يمكن إنكاره هو أن إعادة تأويل شعار بحجم "الموت لأميركا" ليست مجرد تفصيل لغوي، بل لحظة كاشفة. إنها إشارة إلى أن الثورة التي رفعت سقف العداء قد باتت تُدرك حدود قدرتها على الاستمرار في حالة تعبئة دائمة. الثورة التي كانت تصرخ، بدأت تهمس. وحين تبدأ الثورات في الهمس، فإنها إما أن تكون على أبواب النضج، أو على شفير التحلل.
لقد أدركت إيران، ولو متأخرة، أن السياسة لا تُبنى بالشعارات وحدها، وأن العالم لم يعد يصغي للصوت المرتفع، بل للغة المصلحة والواقعية. وما التصريح الأخير سوى خطوة أولى في مسار طويل من المراجعة الخطابية، قد تتبعها تحولات أعمق، أو قد يُجهضها صقور الداخل، كما أجهضوا غيره.
الزمن وحده سيحكم.
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية