يمكننا القول إن أولى مخاضات عجلة التغيير والتحولات بدأت في منطقة الشرق الأوسط، مع حرب الخليج الأولى والثانية. ويمكن إرجاع الحروب والصراعات واختصارها إلى سببين رئيسيين: الأول هو إشكالية ترسيم الحدود، والثاني هو إشكالية بنية أنظمة الحكم.
ترسيم الحدود الذي تم بموجب اتفاقية سايكس-بيكو، وبالتالي فُرضت الحدود الاصطناعية بالقوة رغماً عن كافة شعوب المنطقة، أحدث شرخًا وتوترات بين الدول بدلًا من إقامة العلاقة على أسس حسن الجوار. وكل طرف يرى أن حقه التاريخي هو الأقدم، وبالتالي لديه الأحقية في استعادة حقوقه التاريخية.
أما السبب الثاني، فهو أن نظم الحكم وبنيتها كانت متناقضة مع خصائص وطبيعة المجتمعات، مع السعي الدائم لتصدير الأزمات الداخلية عبر التدخل في شؤون الدول الأخرى.
وبالنظر إلى أهمية التفاهمات والاتفاقيات التي بموجبها تمت عمليات السلام، تبقى هذه الدول هشة وضعيفة، وإن كانت قد أسهمت في تحقيق بعض من الاستقرار والأمن النسبي، وربما استمرت لعقود من الزمن، إلا أنها تبقى مرحلية ووقتية وإجراءً تكتيكيًا. لأن في كلتا الحالتين هناك غياب للأمن الإنساني، وصولًا إلى الأمن المجتمعي. والعنصر الآخر والأهم هو واقع المرأة داخل المجتمعات. وبالتالي، في هاتين الحالتين، ستكون المنطقة حتمًا معرضة لتفجير الأزمات والصراعات والحروب.
وبالنظر إلى عملية فرض واقع جيوستراتيجي، وطبيعة نظم الحكم، نجد أن الدول التي تم تشكيلها كان ولا يزال غياب إرادة الشعوب والمجتمعات هو العامل الأهم في تشتيت المنطقة أكثر. وبالتالي، لتحقيق هاتين الاستراتيجيتين (ترسيم الحدود، نظم الحكم)، ولضمان استمراريتهما، تم ذلك عبر ممارسة العنف وفرض القوة والقبضة الأمنية، مرافقةً بعمليات تغيير ديموغرافي وعمليات تطهير عرقي بمختلف أنواعه، سواء الثقافية أو الجسدية. والنتيجة كانت غياب الأمن الإنساني (الفرد)، وإقصاء وتهميش المرأة، مما أدى إلى تشكل نسيج مجتمعي هش، وفقدان السلم المجتمعي، والمواطنة، والعدالة، والمساءلة. وبالتالي، نرى مجتمعًا مليئًا بالمتناقضات التي تتحول مع مرور الزمن إلى ازدياد في منسوب العنف وغياب الحريات والحقوق وتدني مستوى المعيشة. وتتحول هذه المجتمعات إلى حواضن تتغذى عليها القوى المتطرفة، وخاصة التنظيمات الإسلاموية، وتصبح موطئ قدم لدول ذات أطماع ومشاريع توسعية تتدخل فيها، مستغلةً الوضع المعيشي للفرد، وحالة الجهل، وضعف الانتماء الوطني.
اليوم، لا يمكن فصل الأمن والاستقرار الإقليمي عن الأمن الإنساني، وقضية تحرر المرأة واستعادة دورها داخل المجتمعات. سأحاول إسقاط ما تفضلتُ به على الواقع السوري في تحليل وفهم العلاقة الجدلية بين الأمن والاستقرار السوري والإقليمي، والعكس صحيح.
سوريا، أولى مراحل التغيير بدأت فيها عام 2004، عندما سعى النظام إلى افتعال فتنة لمنع انتقال تجربة العراق إلى الداخل السوري. لكنها، ولعدم تهيئة الظروف الداخلية والخارجية، تمّت السيطرة عليها، إلى أن انفجرت عام 2011. هنا خرجت الأمور عن السيطرة، لتوفر الأسباب الداخلية والخارجية، وحالة الثورات التي اجتاحت المنطقة، دفعت الشعب إلى كسر حاجز الصمت والخوف، إلى جانب استثمار حالة الغليان الشعبي من قبل قوى وجهات إقليمية ودولية ذات أطماع ومشاريع توسعية. وكان عماد خلق حالة الفوضى لتمرير مشاريعهم هو "التنظيمات الإسلاموية المتطرفة". وبذلك، خرجت سوريا من إطارها المحلي إلى الإقليمي والدولي، وتمت مصادرة القرار السوري كليًا، وتحولت سوريا إلى مجرد أداة لتمرير سياسات وأجندات خارجية.
سوريا، سواء من قبل النظام السابق، الذي حاول اختزال الأزمة السورية في الإرهاب ومكافحته، وبدلًا من الاعتراف بوجود "أزمة"، والتقرب منها لحلها بروح المسؤولية، وإنّ ضمان استمراريته وقوّته يكمن في قاعدته الشعبية، لكنه عمد إلى الارتهان للخارج (الروس والإيرانيين) الذين تخلّوا عنه في نهاية المطاف.
سوريا التي تحولت إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، كانت حالة الفوضى كفيلة بأن تحول جغرافيتها إلى مرتع لجميع الإرهابيين من كل أصقاع العالم. وبالتالي، تحولت سوريا إلى قنبلة موقوتة لتفجير المزيد من الأزمات، سواء تلك المتعلقة بدواعٍ إنسانية وعمليات الهجرة والنزوح، أو تلك الأمنية التي باتت مصدرًا لتصدير الإرهاب والتطرف والمواد المخدرة.
السوريون اليوم يدفعون ثمن صراع المشاريع المتصارعة فيما بينهم (الشرق الأوسط الجديد، الهلال الشيعي، الخلافة العثمانية).
بعد أربعة عشر عامًا من الأزمة وما خلّفته من تداعيات، نجد أنفسنا أمام عملية استلام وتسليم سلس للسلطة بموجب تفاهمات إقليمية ودولية. والآن نحن أمام حكومة انتقالية ذات خلفية إسلاموية، تم فرضها كأمر واقع، واتُّخذت سلسلة من الإجراءات ذات اللون الواحد، مبررين ذلك بالظروف الأمنية والاستثنائية التي تفرض اتخاذ هكذا إجراءات للسيطرة على الوضع وإحلال الاستقرار والأمن. لكنها في الحقيقة تندرج ضمن سيناريو انتهاز الفرص بفرض نفسها، وإحكام قبضتها على مفاصل السلطة.
وعلى نهج النظام السابق، عملت السلطة الجديدة المؤقتة على التفرد بالسلطة، من خلال احتكار جميع الصلاحيات بيد رئيس الحكومة الانتقالية، بذريعة أن الظروف تتطلب ذلك. والنقطة الأخرى هي تبرير جميع الانتهاكات على أنها حالات فردية، أو نسبها إلى فلول النظام. مع فرض أيديولوجيتها الإسلاموية على المجتمع السوري، وهي أيديولوجيا معروفة بإقصائها وتهميشها واستعبادها للمرأة، ضاربةً بعرض الحائط التنوع الفسيفسائي للمجتمع السوري. بل والأدهى من ذلك هو فرض وقائع جديدة وتحريف الحقائق لإلهاء الشعوب عنها.
على سبيل المثال، عملية انضمام الفصائل الإسلاموية المتطرفة إلى الجيش السوري كانت مكافأة لهم لأنهم جاؤوا لنصرة الشعب السوري، بينما في الحقيقة جاؤوا لتحقيق حلمهم الماضوي في إقامة دولة الخلافة. وعملية الانتقال في سوريا لا يمكن تسميتها بالتحرير ولا بانتهاء الثورة، إنما هي عملية انتقال بموجب تفاهمات إقليمية ودولية. انتصار الثورة يتطلب التغيير كخطوة أولى: تغيير بنية النظام، الذي هو أحد الفواعل الرئيسية في تفجير الأزمة السورية، وتغيير وضع المرأة بشكل جذري بحيث تستعيد دورها الطبيعي داخل المجتمع. وهذان الشرطان لم يتحققا، بل على العكس، تحوّل النظام إلى أكثر تشددًا ومركزية، وواقع المرأة أكثر مأساوية.
التغييرات الدراماتيكية السريعة القائمة على عنصر المفاجأة والصدمة في سوريا، وضعت العديد من الدول الإقليمية والدولية أمام حالة من الحيرة والدهشة في كيفية التعاطي معها. الجميع يرى فيها تهديدًا مباشرًا لأمنه القومي، إما لوجود عناصر إرهابية من مواطنيه منضمين إلى هيئة تحرير الشام أو الفصائل الإسلاموية المتطرفة الأخرى، أو بسبب الخلفية الأيديولوجية للحكومة الانتقالية. والنتيجة كانت مواقف ومقاربات متباينة؛ حيث رأت بعض الدول ضرورة القيام بعملية احتواء، وخاصة بعض الدول العربية، عبر الانفتاح والزيارات الدبلوماسية. وربما السبب الرئيسي وراء ذلك هو قطع الطريق جزئيًا أمام فرض الوصاية التركية بدلًا من الإيرانية، وتحجيم دورها، والمشاركة في عملية إعادة إعمار سوريا، بالإضافة إلى التنسيق الأمني والاستخباراتي، عبر الضغط على حكومة أحمد الشرع لتقييد تحركات مواطنيهم الإرهابيين في سوريا وتحييد نشاطاتهم، إلى جانب إيقاف تصدير المواد المخدرة. بينما اتخذت بعض الدول الأخرى موقف المراقبة والتريث.
نلاحظ أنه رغم الانفتاح والوعود بإقامة علاقات دبلوماسية على أساس حسن الجوار، تحوّلت العلاقة إلى حالة من الشك والحذر، وخاصة بعد مجازر الساحل، وتفجير كنيسة مار إلياس في السويداء، والتي دفعت بعض الدول إلى إعادة النظر بسياساتها حيال سوريا. ولا يعني بالضرورة أن البراغماتية التي يتمتع بها السيد أحمد الشرع تعني أن جماعته تخلت عن أهدافها وأيديولوجيتها.
وبالتالي، تبقى سوريا قنبلة موقوتة تهدد الأمن الإقليمي والدولي، لما تحتويه من فصائل وعناصر إسلاموية متطرفة قابلة للانفجار في أية لحظة، إلى جانب الأوضاع الاقتصادية الهشة، والتي تدفع الشعب إلى "ثورة الجياع".
في قناعتي، كان السبب الرئيسي الذي دفع العديد من الدول إلى فتح سفاراتها ورفع العقوبات هو إيصال رسالة طمأنة للشعب السوري والترويج بأن الوضع يسير نحو الانفراج. لكنها، في قناعتي، مجرد خطوة للحفاظ على بنية المجتمع السوري من الانهيار، والحفاظ على الاستقرار النسبي، والسلم والأمن الدوليين.
تحقيق رفع العقوبات وإعادة الإعمار مرهون بالتزام الحكومة الانتقالية بالشروط الدولية، وكذلك بتطور الأزمات الإقليمية والدولية وما ينتج عنها من تفاهمات.
كما لاحظنا من خلال الحرب الإيرانية – الإسرائيلية، إلى جانب انضمام القيادة السورية وإعلانها صراحة أنها إلى جانب إسرائيل في مواجهة العدو المشترك إيران، واستخدامها المجال الجوي السوري في حربها، حيث احتلت حالة الفوضى والحرب أولويات المجتمع الدولي، وكانت فرصة للعديد من الفصائل المتطرفة لممارسة شتى أنواع الانتهاكات، وارتفع معدل الجريمة. وربما تكون بعض هذه الفصائل، المنضوية في وزارة الدفاع، متورطة في ارتكاب جرائم.
الحكومة السورية مستبعدة من الحملة الأمنية المزمع القيام بها لتطهير البادية السورية بقيادة التحالف الدولي وقسد والجيش الحر، رغم التصريحات الأمريكية السابقة بانضمام الحكومة لمكافحة داعش. وربما سبب عدم المشاركة هو عامل انعدام الثقة.
وبالتالي، يمكننا إسقاط التجربة السورية على جميع الدول دون استثناء، وإن كانت لكل دولة خصوصياتها، لكن المؤكد أن الجميع يتضرر، سواء من التحديات الأمنية أو الاقتصادية.
ولتحقيق الأمن والاستقرار، يتطلب الأمر بالدرجة الأولى إقامة العلاقات بين الدول على أساس حسن الجوار، والاعتراف بحق الشعوب في تقرير مصيرها بعيدًا عن فرض الخرائط الجيوستراتيجية، وتشكيل حكومات وطنية ناتجة عن انتخابات نزيهة، وكذلك صياغة دستور ينسجم مع خصائص وطبيعة المجتمع، ويعبر عن تطلعات ومتطلبات الشعب، مع مشاركة جادة وحقيقية للمرأة في قيادة المجتمع على كافة الأصعدة.
سوريا اليوم في أمسّ الحاجة إلى تفعيل اتفاقية السيد الشرع والجنرال مظلوم لاستعادة الثقة بين مختلف أطياف المجتمع السوري، والحفاظ على وحدة وسيادة سوريا شعبًا وأرضًا، وعقد مؤتمر حوار سوري–سوري يشمل الجميع بعيدًا عن الإقصاء والتهميش، وتشكيل حكومة وطنية تعددية شاملة.
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية