يُعَدّ يوم ذي قار (624م)، ويقال، (احتمال أواخر سنة 609م وبداية سنة 610م) أحد الأيام الكبرى في التاريخ العربي قبل الإسلام، بل هو من العلامات الفارقة التي بشّرت بولادة الوعي القومي العربي المبكر. فقد مثّل هذا الحدث مزيجًا من السياسة والعسكرية والأخلاق، حيث اجتمع العرب لأول مرة على كلمة سواء، في مواجهة قوة عظمى تهدد وجودهم وهويتهم في ما يشبه مؤتمرًا عربيًا طارئًا، واتخذوا قرارًا جماعيًا بمواجهة قوة عظمى هي الإمبراطورية الساسانية، فأحرزوا نصرًا أذهل العالم آنذاك.
منذ القرن الرابع الميلادي، عاش عرب العراق والجزيرة العربية بين فكي رحى الإمبراطوريتين الكبيرتين الروم البيزنطيين والفرس الساسانيين، وكان المناذرة في الحيرة حلفاء للفرس، بينما الغساسنة في الشام حلفاء للروم، وهذه التبعية جعلت العرب جزءًا من صراعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل، لكن، مع الوقت، بدأ يبرز وعي عربي متنامٍ برفض السيطرة الأجنبية، خصوصًا مع تصاعد القيم القبلية القائمة على الحرية والكرامة.
كان النعمان بن المنذر آخر ملوك المناذرة في الحيرة (حكم حتى 602م)، وتابعًا سياسيًا للإمبراطورية الساسانية الفارسية، وعُرف بكرامته وشجاعته. حين طلب كسرى (يزدجرد) الزواج من ابنته هند بنت النعمان، رفض النعمان ذلك رفضًا قاطعًا، لأن العرب أنفوا أن يزوّجوا بناتهم للأعاجم مهما علت مكانتهم، ومتمسكًا بعُرف العرب، "لا نزوّج بناتنا للأعاجم".
اعتبر كسرى الرفض إهانة شخصية، فاستدعى النعمان إلى المدائن حيث قتله. لكن النعمان، قبل رحيله، لجأ إلى هانئ بن مسعود الشيباني، زعيم بني شيبان، وأودعه أهله وأمواله وسلاحه، وتحوّل الموقف من قضية شخصية إلى قضية كرامة عربية عامة.
التزم زعيم بني شيبان بالعهود، ورفض تسليم ما استُودع إليه، ما اعتبره كسرى تحديًا مباشرًا له، فأمر بتجهيز جيش ضخم للقضاء على بني شيبان واسترداد الوديعة بالقوة.
طالب كسرى بني شيبان بتسليم الوديعة، لكن هانئ رفض وقال: "إن العرب لا تخون الأمانة"، وكان هذا الموقف بمثابة إعلان تمرد على النفوذ الفارسي، حينها أدرك هانئ خطورة الموقف، فأرسل إلى زعماء القبائل العربية داعيًا إياها للاجتماع والتشاور، وقد جاء في بعض الروايات أن رسائله حملت معاني العزة والوفاء، وحذّرت من أن الخضوع في هذه القضية سيعني نهاية الشرف العربي بأسره.
في ذات الوقت، بعث كسرى برسائل تهديد، محذرًا تلك القبائل من مصير الإبادة إن هي دعمت بني شيبان، فانقسم العرب بين خاضع للتهديد الفارسي وأعلن حياده، ومن لبّى النداء.
استجاب بعض الزعماء لدعوة هانئ الشيباني، وعلى رأسهم قبائل بكر بن وائل، وبعض بطون تغلب، وقبائل من جنوب العراق وشمال الجزيرة العربية، وعُقدت أول قمة عربية في التاريخ في بطحاء ذي قار جنوب العراق (قرب الناصرية)، واجتمعوا تحت لهيب الشمس فوق رمال الصحراء الحارقة، وحملت عنوان: الكرامة والعزة والوفاء والشعور بالمسؤولية الجماعية.
حين وصلت أنباء القمة إلى كسرى، استشاط غضبًا، فأرسل جيشًا ضخمًا يقوده أمهر قادته العسكريين، وكل المؤشرات كانت تصب في صالح الفرس لتفوقها العددي وعتاد متطور، وخبرة قتالية وراءها جيش نظامي مدرب.
في المقابل، كان العرب قبائل متفرقة، يجمعها الحماس والعصبية، ولا تملك إلا سلاحها البسيط وخيلها وإيمانها بوجوب الدفاع عن الشرف والكرامة، لكنهم توحدوا لأول مرة، وواجهوا القوة العظمى الثانية في العالم (بعد الروم).
اندلعت المعركة في صحراء ذي قار، وبدأت كرًّا وفرًّا، ودارت رحاها بشراسة، ولعب الماء دورًا حاسمًا، إذ سيطر العرب على الآبار، ومنعوا الفرس من الشرب، فانهار جيشهم تدريجيًا، وحقق العرب نصرًا ساحقًا هزّ أرجاء الجزيرة العربية والعراق، وأثبت أن الوحدة العربية قادرة على قلب موازين القوى، حتى قال بعض المؤرخين: "كان يوم ذي قار أول يوم تنتصر فيه العرب على العجم"، ووصفها المسعودي بأنها "فتح مبكر للعرب" مهد لظهور الإسلام.
يرى بعض المؤرخين، كالطبري واليعقوبي، أن معركة ذي قار وقعت بعد غزوة بدر بأشهر قليلة (4-5 أشهر)، بينما يذهب آخرون إلى أنها سبقتها بقليل، وخلدها الشعراء في قصائدهم، ومن أبرزهم الأعشى -أعشى قيس- الذي يصف يوم ذي قار:
إن الأعز أبانا ـ كان قال لنا: أوصـيـكـم بـثـلاث إنـني تــلـف
الضيف أوصيكم بالضـيف، إن له حــقـاً عليّ، فأعـطيـه وأعـترف
والجار أوصيـكم بالجـار، إن له يوماً من الدهر يثنيه، فينصرف
وقاتلوا القوم إن القتل مكرمة إذا تـلوى بـكـف المعـصم العرف
وجند كسرى غداة الـحنو صبـحهم منا كتائب تزجي الموت فانصرفوا
لما رأونا كشفـنا عن جماجمـنا ليـعرفوا أننـا بكر فينصرفوا
قالوا: البـقيّة والهندي يحصدهم ولا بقيّة إلا الـسيف، فانكشفوا
جحاجـح، وبـنو ملـك غطـارفـة من الأعـاجم، في آذانـها النطف
لما أمالوا إلى النشاب أيديهـم ملنـا ببيـض فـظـل الهام يخـتطف
وخيل بـكر فما تنـفك تطـحنهـم حتى تولوا، وكاد اليوم ينـتـصف
لو أن كـل معـد كـان ـ شاركـنـا في يوم ذي قار ما أخطاهم الشرف
وأصبحت "ذي قار" مثالًا يضرب في الأدب والسياسة العربية، بوصفها دليلًا على أن العرب قادرون على مواجهة القوى العظمى إذا اتحدوا.
إن قمة "ذي قار" ومعركتها ليست مجرد حادثة في سجل الأيام الجاهلية، بل هي رمز خالد لوحدة العرب حين تُستفز كرامتهم، ودليل على أن قوة الجماعة قادرة على دحر أعظم الجيوش.
وبين قمة ذي قار عام 624م و"قمم العرب" المعاصرة تمتد مسافة طويلة، لكن الدرس يبقى واحدًا، الوحدة والكرامة هما أساس السيادة العربية، ومن دونهما يظل العرب عرضة للتهديد الخارجي مهما اختلفت الأزمنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية