تشير كل الشواهد داخل إيران وخارجها، بما لا يدع مجالًا للشك، إلى حتمية سقوط نظام الملالي الظلامي. وهو الأمر الذي يؤكده الحراك الشعبي الاحتجاجي في الداخل الإيراني، الذي انتقل من مرحلة الغليان، والتململ الصامت، إلى حالة الانفجار الشعبي العارم في الشوارع والميادين، معلنًا رغبته في الانعتاق من هذا النظام إلى الأبد.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد، هو: لماذا فشلت الموجات الاحتجاجية التي اندلعت داخل إيران على مدار العقود الماضية، في إسقاط النظام، وهل تنجح هذه المرة؟
يقول خبراء الشأن الإيراني، إن الحركات الاحتجاجية في إيران تهدم النظام من الداخل، غير أنها تفتقر إلى القيادة المنظمة، وتعاني غياب المشروع السياسي الذي يسهل عملية تعبئة الجماهير. ورغم استناد هذه الاحتجاجات الى استياء شعبي واسع النطاق من الظروف المعيشة ونظام الحكم في البلاد إلا أن غياب القيادة السياسية المثقفة الواعية لا يساعدها على الوصول إلى هدفها النهائي، وهو إسقاط النظام الحاكم.
ويشير الخبراء أيضًا إلى غياب الأهداف الواضحة للحركات الاحتجاجية المختلفة خلال العقود الأخيرة، ففي احتجاجات 2018 و2019، رفع المتظاهرون شعارات تطالب بإسقاط النظام والترحم على الشاه الديكتاتور، وهذا يدل على عدم وعي المتظاهرين الكافي بضرورة وضع أهداف تدريجية لتحقيق مطالبهم، ويدل أيضًا على غياب تام للمجتمع المدني. حتى تنمو حركة اجتماعية قوية تكون قادرة على إحداث التغيير، لابد من توحيد الأهداف والشعارات، وأن تكون المطالب تدريجية وتعكس نوعًا من الفهم المجتمعي للمشاكل التي تمر بها البلاد، لتكون الاحتجاجات الشعبية قادرة على إحداث تغيير في النظام والوعي السياسي، ولا تجد الحكومة مبررًا لقمعها أو مواجهتها.
من جهة أخرى، فإن منظومة الأفكار التي تتجمع حولها الجماهير الإيرانية الآن تبدو غير متماسكة، فهناك من يرفض النظام لأسباب علمانية، ومنهم من يرفضه لأسباب اقتصادية، بينما يعارضه آخرون لدوافع عرقية. وإذا لم يتم جمع هذا الشتات المتناثر في مظلة فكرية تنظيمية لها استراتيجية واحدة، فإن فرص نجاح هذه الاحتجاجات في إحداث تغيير لهذا النظام الطائفي تبدو ضئيلة.
كما أن لجوء المحتجين في إيران إلى العنف كان عاملًا قويًا في إضعافهم، وساعد سلطات النظام على تبرير مواجهتها لهذه الاحتجاجات بالقوة. وإن سيكولوجية الطبقة الوسطى تشكل عاملًا مهمًا في هذا السياق، تلجأ السلطات إلى تشديد خطابها تجاه المتظاهرين العنيفين واتهامهم بتهم التمويل الخارجي ومحاولات هدم الدولة، وهو ما يساهم في تراجع الدعم الصامت لهذه الاحتجاجات. الايرانيون لا يريدون المزيد من المصاعب، بل يكفيهم ما يمرون به من أزمات.
ومن الثابت أن إيران تعيش لحظات حرجة، نتيجة انقسامات طبقية وفساد حكومي وضغوط دولية وزيادة معدلات السخط العام، وهو ما يمثل مناخًا مواتيًا لنجاح الاحتجاجات بطبيعة الحال. لكن، في المقابل تمتلك المنظومة الحاكمة شرعية دينية وسياسية صلبة. ولذلك فإن الحركات الاحتجاجية الأخيرة لم تكن قادرة على تحقيق أهدافها، بل طورت حكومات الملالي باقتدار أدوات مواجهتها حتى هذه اللحظة.
من جهة ثانية، ما تزال الحركات الاحتجاجية ذات طابع فوضوي وغير منظم، وتفتقر لمرجعية سياسية قوية موحدة قادرة على تحريكها والتحكم بها، كما كان الحال عشية اندلاع ثورة 1979، بقيادة موسوي الخميني الذي كان لجماهيريته، وإرثه الديني والسياسي، أثر كبير في إحداث ذلك التغيير الدراماتيكي وقتذاك.
في المقابل، يرى بعض المحللين أن هناك حقائق تجعل من سقوط نظام الملالي مسألة وقت؛ فالانقسامات الداخلية العميقة الأخيرة بين أقطاب النظام، والأوضاع الاقتصادية المتردية باستمرار، والمشكلات الاجتماعية الناتجة عن مصادرة الحريات جراء القوانين التي تتحكم بالحريات الشخصية لمعظم فئات الشعب خصوصاً الشباب والنساء، بالإضافة إلى الفساد المستشري في أجهزة السلطة وقمع الشعوب الإيرانية غير الفارسية ومصادرة حقوقها بالكامل، تجعل النظام الإيراني يعوم وسط بحر من مشكلات، ليس فقط لا يستطيع أن يجد لنفسه مخرجًا منها؛ بل لم يعد مجديًا له أن يعالجها بالوصفات السريعة، كما كان يفعل سابقًا.
يحقن نظام الملالي إيران بالمهدئات لبعض الوقت، دون أن يعالج أساس المشكلة، وذلك بسبب تراكمها وطبيعة النظام الأيديولوجية المجبولة على التآكل عبر الزمن، وسياسته البعيدة كل البعد عن العقلانية السياسية التي من شأنها أن تضع رخاء وراحة الشعوب أولى أولوياتها، وتتجنب التدخل في شؤون الجيران، وبناء الإمبراطوريات.
وطرحت موجة الاحتجاجات الحالية، ومنذ بداياتها منتصف سبتمبر/أيلول الماضي، تحديات أمنية وسياسية على مفهوم الجمهورية والمبادئ التأسيسية لهويّتها القائمة على الثورة وتصديرها، فالمسألة تتجاوز الاحتجاج على نظام سياسي، أو إدارة أو مجموعة من القادة إلى محاولة القطيعة مع فكرة الثورة وهويّتها ومؤسساتها المعبرة عن تلك الهويّة.
والأجواء المصاحبة لـ «انتفاضة الشباب»، والتي يقودها شباب بارعون في استخدام التقنية الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي، دفعت مراقبين سياسيين إلى الحديث عن إمكانية أن يعيد التاريخ نفسه، ويحدث التغيير الذي يريده الإيرانيون متمثلًا في الإطاحة بالنظام الذي يرون أنه شارف على النهاية، فحراك الشارع المزلزل يعيد إلى الأذهان نزول الملايين إلى الشوارع عام 1979.
ويوضح الكاتب د. سمير صالحة، أن النظام الإيراني وأجهزته الأمنيّة أظهر قدرة فائقة على التصدّي لموجات الاحتجاج والتظاهر، التي خرجت أكثر من مرّة بمطالب اجتماعية ومعيشية وسياسية. ونجح النظام في الالتفاف عليها ومحاصرتها وامتصاصها بتهمة المساس بأمن الدولة. لكنّه خرج متضرّرًا مفكّكًا مصابًا بجروح عميقة في أعقاب كلّ حادثة واحتجاج.
وهذه المرّة تلقّى النظام ضربات موجعة في أكثر من منطقة، كان يعتبرها محميّة ومحصّنة دينيًا ومذهبيًا وشعبيًا. ومقولة إنّ الغرب هو المحرّض ويضخّم الأمور ويروّج لها ويحاول الاصطياد في الماء العكر بناء على حادثة فرديّة، لم تعد تكفي.
وهناك مؤشر آخر على معاناة نظام الملالي من هذه الاحتجاجات، تمثل في إعلان خمسة ضباط دعمهم العلني للمنتفضين، بل وتأكيدهم أن هناك كثيرين داخل قوات الجيش يسمعون صوتهم وأنهم يدعمون تحركهم، بل ويطالبونهم بعدم التوقف، واستمرار الحراك حتى الوصول إلى إسقاط النظام.
ويؤكد مهدي خلجي، الباحث في "معهد واشنطن للسياسات"، أن القطيعة مع النظام السياسي في إيران هذه المرة أكثر شمولية وحدّة من سابقاتها، حيث جميع الملالي مدانون بغض النظر عن قناعاتهم حول النظام أو انتمائهم إلى تيار الحمائم أو الصقور، فالتراتيبية أو هياكل التشريعات في ملف المرأة بالنسبة لهم جزء من مبررات القمع تجاه الجيل الجديد، والمرأة بشكل أخص.
من جانبه، يؤكد الكاتب هاني عسل أن سقوط نظام الملالى فى إيران لن يكون سهلا، بل سيكون «بخلع الضرس» كما يقولون، وسيحتاج الإيرانيون إلى دفع ثمن باهظ من أرواحهم واستقرارهم واقتصاد بلادهم، مقابل الحصول على حرية حقيقية، وديمقراطية فعلية، بعيدًا عن ديمقراطية «ولاية الفقيه».
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
1- ماذا عن إيران بعد سقوط نظام الملالي؟ موقع الشرق الأوسط، 25 يوليو/تموز 2017.
2- لماذا لم تنجح الاحتجاجات الشعبية في إيران؟ موقع البيت الخليجي، 2 أغسطس/آب 2022.
3- هل تستطيع مظاهرات إيران اقتلاع نظام الملالي؟ مجلة البيان، 27 سبتمبر/أيلول 2022.
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية