المشروع الكردي و"معادلات" الشرق الأوسط

- 12 أغسطس 2025 - 36 قراءة

لم يعد الكُرد طرفًا هامشيًا... بل أصبحوا رقمًا فاعلًا في معادلة التغيير التي تشهدها المنطقة بأسرها

 

الكرد حافظوا على خطابٍ سياسيّ واقعي لا يدعو إلى الانفصال... ولا يهدد بإعادة ترسيم حدود الدول الوطنية

 

صوت الزعيم الأسير عبد الله أوجلان قد يُمهِّد لمرحلة جديدة من التفاهم التاريخي بين الكُرد والأتراك

 

في خضمّ التحوّلات الجيوسياسية الكبرى التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط اليوم، ولا سيما في ظلّ الضربات العسكرية المتبادلة بين إيران وإسرائيل، يبرز المشروع الكردي كعنصر فاعل يخرج عن الأطر التقليدية التي خلفت الدمار في المنطقة. فهذا المشروع لا يُعيد إنتاج نموذج الدولة القومية المغلقة، ولا يسعى إلى إقامة ثيوقراطية بديلة، بل يقدّم مقاربة توافقية مفتوحة على المستقبل، تؤهله ليكون نواة محتملة لنظام إقليمي أكثر مرونة وتعددية.

وبعد قرنٍ من التهميش والتقسيم بين أربع دول (تركيا، إيران، العراق، وسوريا)، أثبت الكُرد خلال العقود الأخيرة قدرة استثنائية على بناء نماذج سياسية تعددية وعقلانية قابلة للاندماج في المنظومة الدولية، بعيدًا عن الأيديولوجيات القومية والدينية المتطرفة.

ومع التصدّع الذي أصاب المشاريع الإقليمية الكبرى، كـ"الهلال الشيعي" الإيراني و"العثمانية الجديدة" التركية، تلوح أمام الكُرد فرصة تاريخية للعب دور محوري في هندسة الترتيبات الجديدة، ضمن شرق أوسط يبحث عن نماذج حكم لا مركزية مرنة، ومستقرة، قادرة على إدارة التنوع والتفاعل البراغماتي مع التوازنات الدولية.

واليوم، في ظل انهيار المعادلات القديمة وإعادة رسم خرائط النفوذ، يواجه الكُرد مفترق طرق حاسمًا: فهل ستكون هذه التغييرات فرصة تاريخية لتثبيت حقوقهم القومية والسياسية، أم تعيد التشابكات الدولية والإقليمية إنتاج الظلم الذي رافق مسيرتهم التاريخية؟

إنّ الإجابة الشافية على هذا السؤال تستدعي قراءة معمقة للمتغيرات الراهنة، وفهمًا دقيقًا لموازين القوى الجديدة، ودور الكُرد في هذه اللحظة المفصلية من تاريخ الشرق الأوسط.

 

الكُرد... القوة الصاعدة

 

يبرز الكُرد اليوم كقوة صاعدة، لا يُقاس حضورها فقط بعدد المقاتلين أو قوة الحلفاء، بل بقدرتهم على تقديم مشروع سياسي واقعي ومعتدل يجد صدىً واسعًا في السياقات الإقليمية والدولية المعقدة. فصعودهم لم يكن نتيجة فراغ أو مصادفة، بل نتاج جهدٍ تراكميٍّ طويل.

لقد لعب الكُرد دورًا محوريًا في محاربة الإرهاب، وأسّسوا نماذج للحكم المحلي الديمقراطي واللا مركزي، خاصة في سوريا. كما حافظوا على خطاب سياسي عقلاني لا يدعو إلى الانفصال أو تفكيك الدول، بل يطالب بإعادة تنظيم العلاقة بين الشعوب والدول على أسس تعاقدية تشاركية.

ومثلُ هذا الخطاب الواقعي النادر، مقترنًا بالشرعية التي اكتسبها الكُرد من خلال مواجهتهم البطولية لتنظيم "داعش"، جعلهم حلفاء موثوقين لدى العديد من القوى الكبرى، في وقت تتخبط فيه الأنظمة التقليدية في أزماتها البنيوية.

فإذا كان الكُرد في القرن الماضي يُنظر إليهم كـ"مشكلة" ينبغي قمعها، فإنهم اليوم يتحولون تدريجيًا إلى "حلٍّ" محتمل في بنية شرق أوسط جديد. ومع تفكك التحالفات القديمة وتآكل شرعية الدولة المركزية، تزداد الحاجة إلى شركاء عقلانيين في المنطقة، ما يجعل الكُرد طرفًا فاعلًا في المعادلة الإقليمية.

وربما تكون هذه اللحظة هي الأكثر نضجًا لانتقال الكُرد من موقع "الضحية" إلى موقع "صانع التاريخ". فالقوى الدولية باتت تنظر إليهم كشريك موثوق، والدول الإقليمية تدرك أكثر من أي وقت مضى أنّ استمرار العداء معهم يحمل كلفة باهظة. وفي خضم التصعيد المتسارع بين إيران وإسرائيل، واحتمالات انزلاق المنطقة إلى مواجهة شاملة، يبرز الكُرد في إيران كفاعل استراتيجي، يتجاوز حدود الهامش الذي حُصروا فيه لعقود، نحو موقع محوري في عملية إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية الإقليمية، عبر مشروع سياسي وتنظيمي متماسك، يتيح لهم اقتناص اللحظة التاريخية التي يُعاد فيها تعريف مراكز النفوذ.

 

إعادة "هندسة" الشرق الأوسط

 

في قلب التحولات المتسارعة التي تعصف بالشرق الأوسط، ومع تصاعد الدور الإسرائيلي- الأمريكي في إعادة صياغة خرائط النفوذ السياسي والعسكري، بدأت أنقرة تستشعر أن الملف الكردي لم يعد مجرد قضية داخلية، بل بات عاملًا إقليميًا فاعلًا تُعاد هندسة المنطقة على أساسه.

هذا الواقع الجديد دفع تركيا إلى مراجعة عميقة في سياساتها حيال القضية الكردية، التي طالما تعاملت معها كتهديد وجودي، لتفتح الباب أمام مقاربة براغماتية جديدة قد تؤسس لتحالف استراتيجي مع الكُرد، ليس فقط في تركيا، بل في عموم الإقليم. ولا تنبع المخاوف التركية من التمدد الإسرائيلي وحده، أو من تهديدات التفكك، بل من إدراك متزايد بأنّ الكُرد باتوا القوة الصاعدة الأكثر قبولًا لدى القوى الدولية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة وأوروبا وبعض العواصم العربية.

أمام هذا الواقع، تبدو تركيا مطالبة بالاختيار بين مسارين: إما الاستمرار في نهج العداء والتهميش، وما يترتب عليه من احتمالات انفجار داخلي، أو الانخراط في مشروع سلام تاريخي ينظر إلى الكُرد كشركاء في الأمن والاستقرار.

وتبدو أنقرة اليوم في أمسّ الحاجة إلى مصالحة شاملة تحفظ لها استقرارها وتجنّبها مصير الدول التي استنزفتها النزاعات الداخلية. وهذا ما يفسر إعادة تحريك ملف الحوار مع الزعيم الكردي الأسير عبد الله أوجلان، الذي قد يُشكّل صوته من زنزانة إمرالي بدايةً لمرحلة جديدة من التفاهم التاريخي، لا تقتصر آثارها على تركيا فحسب، بل تمتد لتشمل عموم الشرق الأوسط، نحو نموذج أقل توحشًا، وأكثر عدالة واستقرارًا.

وبحسب هذه الرؤية الجديدة، يمكن الدفع نحو تطبيع شامل بين الكُرد وتركيا، ودمج الإدارات الذاتية الكردية في سوريا والعراق في شراكات اقتصادية وأمنية مع العمق الكردي داخل تركيا، لتشكل شبكة مترابطة تتجاوز التقسيمات الجغرافية دون المساس بالحدود القائمة. وهو ما يؤسس إلى واقع جديد تُصبح فيه "كردستان الكبرى" كيانًا وظيفيًا لا جغرافيًا، يملي شروطه على معادلات الشرق الأوسط الجديد.

ويبدو أن القراءة الاستراتيجية التركية، اليوم، مدفوعة بيقين بأنّ النماذج القومية الصلبة التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى آخذة في التآكل، وأنّ زمن الكيانات الإمبراطورية المتخشبة قد ولّى. وفي المقابل، فإن الكيانات متعددة الهوية، القادرة على إنتاج شراكات داخلية وإقليمية، هي وحدها القادرة على البقاء والتأثير.

وعليه، فإن تحالفًا تركيًا- كرديًا على قاعدة الاعتراف المتبادل والتمثيل السياسي والإداري الحقيقي، لن يكون مجرد حلًا لمعضلة داخلية، بل مدخلًا لإعادة تموضع تركيا كلاعب محوري في شرق أوسط يُعاد هندسته بعد انتهاء مفعول اتفاقيات "سايكس بيكو".

وأخيرًا، على مستوى الداخل السوري، يبدو أن الكُرد هم الجهة الأكثر جاهزية للعب دور فاعل في صياغة مستقبل سوريا، ضمن نموذج دولة لا مركزية تعددية، في بيئة إقليمية جديدة تُقصي النماذج المؤدلجة والمتطرفة، وتُبنى على أساس المصالح والاستقرار، وفي القلب منها التحالف الجديد بين الكُرد وتركيا، برعاية أمريكية وغربية.

 

* رئيس مركز الخليج للدراسات الإيرانية

 

 

النشرة الإخبارية

اشترك في النشرة الإخبارية

ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية

معلوماتك فى امان معنا! إلغاء الاشتراك في أي وقت.