صراع المشاريع الاستعمارية... أين يقف العرب؟

- 20 يونيو 2025 - 4 قراءة

 

المخطط الإسرائيلي يسعى لفرض واقع جديد على الإقليم ويضاعف من معدلات نزيف القوة العربية

 

الطريق نحو إعادة بناء مشروع عربي في ظل الظروف الإقليمية الراهنة ليس مفروشًا بالورود

 

 

في روايته "الحرب والسلام"، يقول الأديب الروسي الشهير ليو تولستوي عبارة على لسان أحد أبطاله، ربما تفسّر واقع العرب الراهن: "إنّ التاريخ لا يُعلّم أي أمة أي شيء، فقط يعاقبها لعدم تعلّم دروسه"!

ومنذ عقود، يشهد الشرق الأوسط تنافسًا حادًا بين قوى إقليمية ودولية مختلفة، لكل منها مشروعها الخاص الذي تسعى لتنفيذه، من أجل تحقيق مصالحها وفرض نفوذها في المنطقة. هذا التنافس تجلى في صراع المشاريع الإيرانية والتركية والإسرائيلية، حيث تسعى كل قوة إلى تعزيز موقعها في المنطقة على حساب الأخرى، مع ملاحظة أن غياب مشروع عربي موحد وقوي أعطى هذه القوى مساحة أكبر للتمدد في قلب العالم العربي، الذي يبدو عاجزًا عن طرح مشروعه الخاص.

لقد كانت هناك دائمًا مشاريع تاريخية استعمارية، امتدت من اتفاق «سايكس بيكو» في مطلع القرن الماضي، حتى وصلت في مطلع القرن الحادي والعشرين، وبعد زلزال الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، إلى طرح مشروع «الشرق الأوسط الكبير» ذي الصبغة الأمريكية، الممتد من أفغانستان عبر العراق حتى يصل إلى المحيط الأطلنطي.

ورغم أن الوطن العربي هو المكوّن الأكبر والأكثر تمددًا وانتشارًا على قارتي آسيا وأفريقيا بـ22 دولة، وبتعداد سكاني يفوق 450 مليون نسمة، وتحكّم الدول العربية في طاقة النفط والغاز الأكبر في العالم، وبالمضائق المائية الأهم على مستوى العالم، وباستثمارات صناديق سيادية تريليونية هي الأكبر في العالم.. رغم ذلك، إلا أننا نفتقد لمكوّن مهم وأساسي، وهو غياب مشروع عربي جامع، يعزز دور ومكانة الردع العربي، ويصهر القوة المشتركة في بوتقة واحدة تتصدى لتطاول وتدخل عبث المشاريع الإقليمية والدولية، من تهديد واستباحة الأمن القومي العربي.

وفي أزمنة سابقة، كانت هناك مشاريع سوفياتية وشيوعية تضاف إلى كل ما سبق في شكل أطماع تأتي كالسيل ولا تجد ما يوقفها. والآن، فإنها تدفع إلى التساؤل عمَّا إذا كان هناك مشروع عربي في المنطقة، أو من يريد منهم أن يكون فاعلًا وليس مفعولًا به.

الآن، تتصارع هذه المشاريع الاستعمارية الجديدة فيما بينها لتحقيق أهدافها، فيما يبقى المشروع العربي غائبًا عن الساحة، ما يعزز حالة الفوضى والتفكك في المنطقة. وإذا لم تسع الدول العربية إلى استعادة زمام المبادرة، وتوحيد جهودها لمواجهة هذه التحديات، فقد تجد نفسها خارج المعادلة، وهو ما يهدد بمزيد من التدهور في الأوضاع الإقليمية.

 

إعادة تشكيل الشرق الأوسط

 

وجه الخطورة هنا، يكمن في تعدد الرؤى والمشاريع الإقليمية والدولية التي يجرى طرحها لواقع ومستقبل المنطقة، في ظل غياب مشروع عربي جامع وشامل يستطيع التصدي لتلك الرؤى غير العربية، ويقدم طرحًا بديلًا للحظة الراهنة من عمر المنطقة، ويسهم في صياغة تصور متماسك لمستقبلها من وجهة نظر عربية، قادرة على تحقيق مصالح الغالبية الكاسحة من شعوب منطقة الشرق الأوسط.

وثمة وجه آخر لخطورة التحدي الراهن، أن المنطقة واقعة في قلب ساحة تنافس دولي غير مسبوق، وفى لحظة إعادة تشكّل للنظام الدولي، بينما جميع القوى الفاعلة في هذا النظام الدولي، سواء تلك التي تسعى للحفاظ على مكانتها المهيمنة، أو القوى الأخرى التي تريد إعادة بناء النظام الدولي وتعزيز دورها في الخريطة الجديدة للنفوذ العالمي، ترى في المنطقة العربية الميدان الأهم لمعركة إعادة تشكيل العالم، بما في ذلك الشرق الأوسط.

ولعل ما يجرى أيضًا في الأراضي الفلسطينية، يمثل بحد ذاته تحديًا لمنظومة الأمن القومي العربي، ليس فقط لخطورة ما يقوم به الاحتلال الإسرائيلي من محاولات لتصفية القضية واقتلاع الفلسطينيين من أراضيهم. وهي محاولة تبدو الأخطر والأكثر تهديدًا منذ إعلان قيام دولة الاحتلال، ولكن لأن ذلك المشروع الإسرائيلي المدعوم أمريكيًا يتجاوز مجرد محاولة للسيطرة على ما تبقى من أراضي فلسطين التاريخية، ويسعى إلى إعادة فك وتركيب المنطقة جغرافيًا وعرقيًا وطائفيًا، بصورة تحقق أكبر حضور ممكن للوجود الصهيوني في مستقبل المنطقة، وفرض واقع جديد على دول الإقليم، يضاعف من معدلات نزيف معادلة القوة العربية.

ولم يكن ذلك جديدًا، فمنذ قيام دولة الاحتلال عبَّرت (إسرائيل) عن «مشروع» استعماري استيطاني؛ ولكنَّ الزمن ما لبث أن ولد مشاريع أخرى في المنطقة كان منها «المشروع الفارسي» الذي عبَّرت عنه أقوال إيرانية شهيرة حول السيطرة على أربع عواصم عربية (بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء).

هذا المشروع كان معبِّرًا عن النزعة الإيرانية نحو السيطرة والهيمنة على الإقليم العربي، خصوصًا بعد زلزال ما سُمِّي «الربيع العربي». وتجسد ذلك في خلق ميليشيات عسكرية تابعة لنظام الملالي، وخارجة على الدولة الوطنية العربية، تحت أسماء «الحشد الشعبي» و«حزب الله» و«الحوثيون».

وما بات واضحًا للكافة بعد ذلك «الربيع» المزعوم، أنه فتح باب الخلخلة التي جرت في النظام الإقليمي العربي، وفتح مزيدًا من الأبواب لمشروع تركي آخر، كان من ضمنه دخول القوات التركية إلى العمق العربي بحجة البحث عن "حزب العمال الكردستاني" في العراق وسوريا؛ كما أن الصلات بين تركيا وحركات الإسلام السياسي كانت كشفًا حديثًا عن عودة «الخلافة الإسلامية» في ثوب "العثمانية الجديدة".

 

نحو مشروع عربي

 

لا يُلام النظام الإيراني على أنّ له مشروعه السياسي الذي يتحرك على أساسه في المنطقة، ولا الاحتلال الإسرائيلي يُلام هو الآخر على أنّ له مشروعًا مماثلًا، ولا حتى النظام التركي يُلام على شيء شبيه لديه، ولكننا نحن العرب الذين يجب أن نُلام، لأنّ أحدًا من هذه الأطراف الثلاثة لم يمنعنا من أن يكون لنا مشروعنا الخاص، الذي يمثّلنا ويمثّل طموحنا ومستقبلنا ووجودنا، والأهم يمثّل قدرتنا على أن نحمي مصالحنا من كل مشروع منافس طامح أو طامع.

وهكذا، يبقى الطرف العربي رغم وفرة أوراق ومصادر القوة في أيادي دوله من المحيط إلى الخليج، الطرف الأقل تأثيرًا في معادلات التوزان الإقليمي. ولن يتغير الواقع، إلا بوجود مشروع عربي يوازن ويردع.

غياب المشروع العربي الرسمي لا يجعل الدول العربية في ذيل القائمة فحسب، بل يجعلها مهددة وآيلة للسقوط بأي لحظة. ويفسح المجال للدول الأخرى ومشاريعها السياسية والاقتصادية والطائفية فرصة لتهديد أمن واستقرار واقتصاد الدول العربية برمتها، بل والنسيج الاجتماعي.

ما جرى، ويجري، في أكثر من بلد عربي لا يحتاج إلى مجهر لإثبات ذلك، وقد يكون الآتي أكبر وأكثر اتساعًا، فيما لو استمرت السياسات العربية الرسمية هامشية، وفردية الحركة والحراك، ولا تنتمي إلى أي مشروع متماسك يحميها، ويعرف تمامًا كيف يواجه ذاك المشروع الآخر الخطر واستطالاته وأدواته في المنطقة من دول لقيطة وأخرى متربصة، زرعت كيانات طائفية، وميليشيات مسلحة، لتقويض كل ما هو عربي وإسلامي.

ومن البديهي أن الطريق نحو إعادة بناء مشروع عربي في ظل الظروف الإقليمية الراهنة ليس مفروشًا بالورود، لكن توافر الإرادة السياسية وبناء شراكات عربية ناجحة على غرار الشراكة "المصرية- الخليجية"، يجعلنا نأمل أن يكون الغد أفضل من اليوم، ومستقبل المنطقة أكثر قدرة على التعافي من جراح واقعها الراهن.

 

*رئيس مركز الخليج للدراسات الإيرانية

النشرة الإخبارية

اشترك في النشرة الإخبارية

ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية

معلوماتك فى امان معنا! إلغاء الاشتراك في أي وقت.