العمائم السوداء

- 8 مايو 2025 - 112 قراءة

دأب نظام الملالي الإيراني منذ نجاح الثورة الإيرانية عام 1979 على إظهار وجهه القبيح لجيرانه العرب، الذين تربطهم بإيران وشائج قُربى، من الجوار والدين والإرث الحضاري المشترك.

وكان من المفترض أن تؤدي هذه الوشائج إلى صداقة عربية- إيرانية، قوامها التعاون لتحقيق مصلحة شعوب المنطقة، غير أن ملالي طهران دفعونا دفعًا إلى اعتبارهم ألدّ أعداء منطقتنا، والتوجس منهم، بعد ما ذاقته بعض دولنا العربية، ومنها العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين، من ويلات ومصائب على أيدي أصحاب «العمائم السوداء» وعملائهم، سواء من يعمل منهم في السر، أو يُسبح بحمد إيران في العلن!

ومن الملفت للنظر، حجم العنصرية التي تموج بها الأوساط الإيرانية تحت حكم الملالي حيال العرب، ففي عام 2015، انتشرت على نطاق واسع في أوساط الشباب الإيراني أغنية عنصرية اسمها «كِش عرب»، وهي الكلمة المستخدمة في لعبة الشطرنج، ومعناها «مات». وأُذيعت هذه الأغنية العنصرية في الإذاعات على نطاق واسع بترخيص من وزارة الثقافة الإيرانية، وكانت الرسالة غير المعلنة منها هي «اقتل عربيًا»!

ومن ضمن كلمات تلك الأغنية: «لم أكن يومًا ما أحب أكلَة الجراد هؤلاء»، وهو تعبير فارسي قديم يُستخدم للدلالة على جنس العرب. وباقي كلماتها موجهة إلى الملك الفارسي القديم «قوروش»، الذي بات رمزًا للقوميين الإيرانيين المتطرفين، حيث تخاطبه قائلة: «انهض يا قوروش، فقد بلغ الأمر بنا، ليتم تهديدنا من قبل العرب. وقسمًا بالخليج الفارسي، سنقضي على اسمكم، وسنضرب رقاب جميعكم عند مقبرة قوروش، ولو أخطأتم ستدفعون الثمن في الرياض، ومن اليوم فصاعدًا بات اسمي قاتل العرب»!

ويتمحور الحقد الفارسي الصفوي في طلب «الانتقام من العرب» الذين هزموا الإمبراطورية الفارسية القديمة. ويتبدى هذا الحقد في تصريحات قادة نظام الملالي الحاكم، الذين فرضوا على الطلاب الإيرانيين مناهج دراسية تعتبر العربي «شخصًا منحطًا»، لا هم له سوى إشباع رغباته الجسدية، ولا صلة له من قريب أو بعيد بالتحضر أو الحضارة!

هذا الشعور المعادي للعرب تنامى بين شريحة كبيرة من جيل الشباب الإيراني ما بعد ثورة 1979، وكان يغذيه الملالي المتعصبون بمشاعر الحنين إلى الماضي، وأمجاد أسلافهم، مشفوعة بمظاهر الحقد على عرب الخليج خاصة، وعلى الجنس العربي بشكل عام.

ومن المؤسف أن بعض الأدباء الإيرانيين روّجوا في كتاباتهم لهذه المشاعر العدوانية، حيث قدموا صورة قبيحة لـ «العنصر العربي» المتهافت في مقابل «العنصر الفارسي» القوي. وكان على رأس هؤلاء الروائي الشهير صادق هدايت، صاحب الرواية المعروفة «البومة العمياء»، التي تُرجمت إلى العربية كاملة، رغم ما تتضمنه من مشاعر الحقد ضد العرب. وهي الصفة التي تصطبغ بها غالبية آثار «هدايت» الأدبية، ومنها «بروين بنت الساسان» التي صوّر فيها ما أسماه «وحشية العرب» خلال الفتح الإسلامي لبلاد فارس!

ويعترف الدكتور صادق زيبا كلام، الأستاذ في جامعة طهران، بالكراهية التي يكنها مواطنوه للعرب والشعوب القوميات الأخرى غير الفارسية عمومًا في البلاد، قائلًا: «أعتقد أن الكثير من الإيرانيين سواء أكان متدينًا أو علمانيًا يكره العرب. ومنذ الحقبة الملكية كان الأمر على هذا المنوال، حيث كانت تسود إيران نظرة تحطّ من شأن العربي، وهي صورة مستمرة إلى يومنا هذا. وأعتقد أن الكثير من الإيرانيين يكرهون العرب، ولا فرق بين المتدين وغير المتدين في هذا المجال، فالحقد والضغينة تجاه أهل السنة ورموزهم لدى الكثير من الإيرانيين، هو في واقع الأمر الوجه الآخر للحقد على العرب».

مثل هذه الأباطيل تجاه العرب والعروبة، التي يتم الترويج لها على أوسع نطاق في إيران المعاصرة، هي ما أفسد العلاقة مع إيران، ناهيك عن المؤامرات والمخططات التخريبية التي نفذها الملالي في غير بلد عربي، الأمر الذي أدى إلى اعتبار حكام طهران أعداء للأمة العربية، حتى إشعار آخر!  

ومن المعلوم للكافة، أن إيران هي أكثر دولة على مر التاريخ، سعت إلى التدخل في شؤون المنطقة العربية، الأمر الذي قاد إلى قدر أكبر من التأزم في الشؤون الإقليمية، وأسهم في اتساع دائرة الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة، خلال العقود الأخيرة.

وسلك ملالي طهران في تنفيذ استراتيجيتهم العبثية والتوسعية طرقًا شتى، من التدخل المباشر في شؤون بعض الدول العربية إلى خلق الميليشيات وفق أسس مذهبية، وزرع الخلايا النائمة في بعض الدول للنيل من استقرارها عند الحاجة، وانتهاءً بتهديد السلم والأمن الإقليمي من خلال برنامج إيران النووي، وتطوير قدراتها في مجال الصواريخ الباليستية، وكذلك الطائرات من دون طيار وتزويدها للميليشيات التابعة لها بالسلاح والعتاد العسكري.

والراصد لأداء النظام الإيراني وعلاقته بالمنطقة العربية، يجد أن لدى طهران تصورًا وبرنامجًا وخطة عمل للدخول والانتشار في دول المنطقة، من خلال نشر الفكر الشيعي، ليس حبًا في الدين الشيعي، ولكن كوسيلة لاختراق المجتمعات العربية، عبر انتهاج آليات وأساليب متعددة ومختلفة، انطلاقًا من مبدأ «الغاية تبرر الوسيلة»، ومنها نشر الإرهاب الدموي والبلبلة والتفكك الاجتماعي والسياسي، ومحاولة الاستحواذ على بعض الفعاليات الاقتصادية في بعض الدول العربية، وبالذات البلدان الخليجية.

كما مارست إيران دورًا عدوانيًا واستفزازيًا لبعض الدول العربية، كانتهاجها للحرب الإلكترونية واختراق بعض الكيانات العربية، وبث ونشر الفرقة لإضعاف الجبهات الداخلية لدولنا، واستيلاؤها على بعض المرافق السياسية والاقتصادية، كما حدث في لبنان وسوريا والعراق واليمن.

وبلغ «المشروع الاستعماري» الإيراني الذي يستهدف الدول العربية مدىً خطيرًا، خلال الأعوام الأخيرة، لم تبلغه القوى الاستعمارية القديمة يومًا ما، بحيث بات هذا المشروع خطرًا داهمًا يهدد مقدرات الأمة برمتها، بعد أن أصبح ملالي إيران يتحكمون في القرارات المصيرية لبعض الدول العربية التي تُحكم من طهران مباشرة!

وأمام المسارات الإيرانية التي يتضح أنها ستؤثر بشكل أو بآخر على العالم العربي بشكل عام، ودول الخليج بشكل خاص، بات لزامًا الاستشعار الجماعي لتلك المخاطر، وأن تمتلك الدول العربية الإرادة السياسية لبلورة مقاربات سياسية وقدرات دفاعية مشتركة للحد من التحديات الإيرانية المتوقعة.

وإذا كان العرب في حيرة من أهداف إيران، فإن حكام طهران يدركون تمامًا أهدافهم، ولديهم خطط استراتيجية لتنفيذها، فإيران قوة إقليمية مثل باكستان وتركيا ومصر والسعودية، ولكنها تريد أن تصبح «قوة عظمي» في المنطقة تدير أمور دولها بما تراه هي مناسبًا، وتفرض رؤيتها للأمن والاستقرار في منطقة الخليج والمشرق العربي على كل دولها، وتتوق لأن تعود إلى مكانة «الحليف الأول» للولايات المتحدة في المنطقة كما كانت أيام الشاه، وليس فقط بديلًا للسعودية والآخرين، وإنما بدور أكبر من السعودية وأنياب أكثر شراسة!

ولا جدال أن أي حوار حقيقي مع إيران إنما هو – بالتأكيد- فرصة للدول العربية ولشعوب الشرق الأوسط، كما أنه فرصة للإيرانيين قبل غيرهم، للتعاون واستثمار الإمكانات العظيمة للإقليم برمته.

غير أن الدول العربية تعلم جيدًا منذ عام 1979 أنه ليس في مقدورها الاطمئنان للأحلام الوردية بشأن طموحات إيران الإقليمية، التي يعلمها القاصي والداني. كما تعلم المنطقة أنه لا أحد يملك ترف الانتظار، لبيان أي اتجاهات سيسلكها النظام الإيراني، أو أي نتائج إقليمية ستترتب على إعادة إحياء «الاتفاق النووي». وحتى ذلك الحين، فإن كل دولة من دول المنطقة تعمل بشكل منفرد، وبشكل تشاركي، على وضع ديناميات وقائية تجاه إيران، تحسبًا لما قد يحدث من تطورات في المدى المنظور.

وقد بات التساؤل حول مستقبل الصراع العربي- الإيراني، هو سؤال الساعة في المحيط الإقليمي، بل على مستوى السياسة الدولية في الوقت الراهن، لجهة ما سببّه هذا الصراع المستمر منذ عدة عقود من ويلات للمنطقة وللعالم أجمع، خصوصًا بعد تصاعد مظاهر العدوانية الإيرانية تجاه إقليم الشرق الأوسط برمته، وما تبع ذلك من تضرر خطوط الملاحة العالمية في الخليج العربي، الشريان الحيوي الذي يمد العالم بالطاقة، ومحور اهتمام القوى الكبرى.

يتفق معظم المحللين على أن إيران، ذلك البلد العريق المتمسك بلغته وقوميته «الفارسية»، كانت في توتر وصراع سيطرة ونفوذ مع العرب منذ ما قبل ظهور الإسلام، فقد امتد نفوذ الأكاسرة الفرس إلى العراق وشمال الجزيرة العربية في الجاهلية، حتى أسقط الفاتحون العرب المسلمون مُلك كسرى، وأطفأوا «النار المجوسية المقدسة» إلى الأبد.

ويؤكد الباحثون أن تاريخ العلاقات الإيرانية – العربية زاخرًا بالصراع منذ مرحلة ما قبل الإسلام، الذي يمثل منعرجًا مهمًا لا يمكن القفز عليه عند تحليل مسار هذه العلاقات ومراحلها وتطوراتها، فمعركة القادسية لا تزال تمثل جرحًا نازفًا بالنسبة إلى كثير من القوميين الإيرانيين، ممن ينظرون إليها من منظور قومي عنصري صرف، بعيدًا عن دوافعها وأبعادها وكيف أنها تمثل شرارة انصهار للثقافتين العربية والفارسية ضمن حضارة إسلامية مزدهرة وقتذاك.

واكتسب الصراع العربي - الإيراني بُعدًا مذهبيًا جديدًا إثر الفتوحات الإسلامية في ظل الدولة الصفوية مطلع القرن الـ 16 الميلادي، التي فرضت «الجعفرية - الاثني عشرية» مذهبًا رسميًا للدولة، إلى جانب صراع الحدود والتهام الأراضي العربية؛ بدءًا باحتلال إقليم عربستان المعروف حاليًا بـ«الأحواز» عام 1925، واحتلال الجزر الإماراتية (1971)، وغيرها من عوامل الصراع التي صبغت العلاقات العربية - الإيرانية.

وتحولت العلاقة العربية- الإيرانية من صداقة حميمة مع نظام الشاه، إلى علاقة عداوة بغيضة مع نظام الملالي الجدد، الذين عمدوا إلى تبني سياسة «تصدير الثورة» للمحيط العربي، الأمر الذي تنبهت إليه العواصم العربية المعنية مبكرًا، وكافحته بقوة.

وكانت فكرة «تصدير الثورة» بمثابة ناقوس خطر، كشف عن النوايا الحقيقية للتوسع الإيراني الفارسي، الذي يتخذ من الدين ستارًا، والثورية الزائفة منهجًا وسبيلًا، بل إن إيران الشاهنشاهية التي كانت تلعب دور «الشرطي الإقليمي» في المنطقة خلال عقد السبعينيات من القرن الماضي، نيابةً عن الولايات المتحدة، امتلكت علاقات أفضل بمراحل مع الدول العربية من تلك التي حاولت طهران بناءها طيلة حقبة الملالي المليئة بالتهديد والوعيد والنعرات العنصرية الاستعلائية.

وأسهمت سياسات ملالي إيران وحلفائها الشيعة لها، في العراق تحديدًا بعد احتلاله عام 2003، في تأجيج البعد الطائفي للصراع السياسي داخل العراق من جهة، وفي إزكاء صراع المحاور الإقليمية تحت لافتة «الصراع السني- الشيعي» من جهة ثانية. كما فعلت إيران ذلك أيضًا بتدخلها السافر في الشأن السوري منذ عام 2015، للحيلولة دون سقوط نظام بشار الأسد، وجلبها الميليشيات المسلحة من العراق ولبنان وأفغانستان وباكستان، لإعلان «الحرب المذهبية» في سوريا، بدعوى حماية المراقد المقدسة للرموز الشيعية في البلاد.

ويبدو سلوك إيران الخمينية أيضًا تجاه عرب إقليم الأحواز برهانًا ساطعًا على طائفية النظام وعنصريته، في آنٍ واحد، فهذا النظام الذي يرفع شعارات دينية، يحترم الأقليات الدينية الموجودة في إيران ما عدا العرب السنة، الذين اكتووا بنار هذا النظام وعانوا ـ ولا يزالون ـ جراء ممـارسات القمع والبطش والظلم والاضطهاد التي يتّبعها معهم الملالي، وزيف القناع الديني الذي ترتديه طهران، وتحاول من خلاله خداع بسطاء المسلمين والعرب والإيرانيين على السواء.

واليوم، تجد المنطقة نفسها في أتون حرب طاحنة، ترفع فيها شعارات طائفية ودينية مقدسة، لا تهدد حاضر شعوب المنطقة فقط، بل ومستقبل أجيالها المقبلة، حتى لو هدأت الحروب وسويت الأزمات المشتعلة. لكل ذلك، أعتقد أن المدخل لتفكيك هذه الأزمات يبدأ من إعادة الصراع لمربعاته الحقيقية، بعيدًا عن إشعال حروب الطوائف، كجزء من المؤامرات الإيرانية على العالم العربي.

وهذا الكتاب، عبارة عن مقالات تم نشرها في عدد من المطبوعات والمواقع الإلكترونية، المعنية بالشأن الإيراني، من بينها «شؤون إيرانية» و«إيران بوست» و«المحمّرة» وغيرهم، ضمن مشروع ثقافي لمواجهة المد الشيعي في العالم العربي، عبر تعريف القارئ الكريم بطبيعة هذا المد، وتبعاته وتداعياته على أمتنا العربية، فضلًا عن ارتباطه بالمشروع الإيراني التوسعي في المنطقة برمتها.

والسؤال الأساسي الذي يطرحه الكتاب، هو: إلى أين يسير الصراع بين إيران ممثلة في نظام الملالي، والعرب الذي باتت تجمعهم مشاعر عداء مستحكم لحكام طهران؟ وهل يسفر النزاع عن مزيد من الأضرار للمنطقة، أم يجنح الطرفان إلى السلم في نهاية المطاف؟

النشرة الإخبارية

اشترك في النشرة الإخبارية

ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية

معلوماتك فى امان معنا! إلغاء الاشتراك في أي وقت.