انشغل الجميع بالاتفاق السعودي ـ الإيراني الذي حصل برعاية صينية، وقد تنبأ البعض بحدوث تغييرات كبيرة في منطقة الشرق الأوسط وكبح جماح التمدد الإيراني وتدخلاته المتكررة في شؤون دول الجوار انطلاقًا من بغداد ومرورًا بصنعاء وبيروت والمنامة وصولًا إلى دمشق وغزة.
وإذا كانت السعودية ودول الخليج قد أرهقت في المواجهة مع إيران فقد أرهقت إيران أكثر، والأولوية الأساسية الآن أمام السعودية هي الأمن والأولوية الأساسية لإيران بعد الأمن هي التنمية الاقتصادية ورفع العقوبات وإعادة الحياة إلى الاقتصاد الإيراني المأزوم، وبالتالي فكل طرف لديه قناعة أن الحرب لم تجدي وأن لديه ما يقدمه للآخر.
فطوال السنوات الثماني الأخيرة خيم الصراع السعودي ـ الإيراني على منطقة الشرق الأوسط ولم يعد الحديث إلا عن صراع المحاور وحروب الوكالة والاستقطاب الشيعي ـ السني الذي أدخل المنطقة في أتون حروب وصراعات لا تنته، استخدم كل طرف منهما جميع أسلحته في الحرب ولم يستطع هزيمة الطرف الآخر ليصلا أخيرا إلى قناعة مفادها أنه لا حل للخروج من الأزمة إلا بالمصالحة والحوار ووقف التحريض الطائفي.
إصرار صيني على المصالحة بين الرياض وطهران
يعد الاتفاق السعودي ـ الإيراني تتويجا للمفاوضات التي استضافتها العراق وسلطنة عمان عامي 2021 و2022 والتي اكملتها بيكين بعد ذلك مستغلة حالة عدم الثقة والشكوك المتبادلة التي شابت أجواء الحوار بين طهران والرياض وما تطلبه ذلك من قوة دولية تضمن هذا الاتفاق وتسهر على حسن تنفيذه واحترامه.
وحقيقة الأمر أن ما حققته بيكين من نجاح على مستوى تقريب وجاهت النظر بين المملكة السعودية وإيران لم يكن وليد اللحظة بل جاء بعد جهد مستمر وسلسلة من المحاولات قامت بها الصين لإصلاح العلاقة بين البلدين، ففي مارس/آذار 2017 أعلن وزير الخارجية الصيني وانغ يي قبل زيارة الملك سلمان بن عبد العزيز للصين عن استعداد بلاده للتوسط بين الجانبين.
وأعادت الصين المحاولة بعد زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لأراضيها عام 2019 وأعلنت مجددا استعدادها لتقريب وجاهت النظر بين الفرقاء.
وفي ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي طرحت الصين خلال قمة عقدتها مع المملكة السعودية ودول الخليج موضوع المصالحة من جديد مستندة على تاريخ خال من الخلافات والصراعات إضافة إلى ما تملكه من علاقات اقتصادية وتجارية ومصالح مع الجانبين، حيث أنها تعتمد بشكل كبير على النفط السعودي كما أنها ترتبط ارتباطا اقتصاديا قويا مع إيران. وهذا ما شكل دافعا للمضي قدما في المصالحة بين الأطراف وذلك كي تستطيع الصين التحرك بحرية أكبر دون أن يتم اعتبار أي من تحركاتها تجاه أي من الطرفين بمثابة عداء للطرف الآخر.
لذلك يمكن اعتبار الصين الطرف الأول المستفيد من هذا الصلح المرتقب تكملة لمشروعها الاقتصادي الضخم طريق الحرير الذي يمر من 65 دولة ويربط الشرق بالغرب، حيث يوفر طريق الحرير ما يزيد عن 2.5 ترليون دولار كل سنة حسب بيانات صندوق النقد الدولي، وهو مبلغ قابل للزيادة وذلك لأن تجارة طريق الحرير تغذي 3 قارات، آسيا وافريقيا وأوروبا.
نجاح المشروع مرتبط بتوفر 3 أمور:
ـ أولًا، موافقة الدول على الانضمام لمشروع طريق الحرير.
ـ ثانيًا، ضرورة توفر بنية تحتية ضخمة لإنجاح المشروع مثل شبكة الطرقات والموانئ التي تمر منها السفن.
ـ ثالثًا، وهو أهم ما تبحث عنه الصين هو الأمن والأمان حيث يتطلب مرور البضائع وتنشيط حركة التجارة توفر بيئة آمنة خالية من الصراعات والاقتتال.
وبالتالي فإن تدخل الصين من أجل الصلح بين إيران والسعودية لا هو محبة في إيران و لا هو طبطبة على المملكة العربية السعودية بل هو مصلحة تشمل جميع الأطراف.
ستستفيد المملكة العربية السعودية بأن ترفع إيران يدها عن جماعة الحوثي في اليمن وهذا من شأنه أن ينهي الهجمات المتكررة على أراضي المملكة وتأمين حدودها الجنوبية، والاستفادة الثانية فستتحقق بتوقف المسيرات الإيرانية التي كان يطلقها الحرس الثوري الإيراني عن ضرب المنشآت النفطية السعودية.
أما الاستفادة الثالثة والأهم فتتمثل في العائدات الضخمة التي ستجنيها المملكة من مشروع طريق الحرير الصيني حيث ترى نفسها من أكثر الدول التي من المفروض أن تستفيد من هذا المشروع نظرا لكونها تطل على 3 من أهم الممرات البحرية في العالم (الخليج العربي/ باب المندب/ البحر الأحمر) والتي يمر منها 13% من حجم التجارة في العالم.
ولا تقتصر استفادة السعودية على مجرد أموال ستدخل خزينة المملكة بل ببناء مناطق صناعية ولوجستية كاملة لاستيعاب حركة التجارة، وبالتالي ستتحول المملكة من مجرد دولة نفطية (تبيع النفط وتجمع أموال الحج كل عام) إلى دولة صناعية وسياحية في نفس الوقت، وستتحول أيضا من مجرد دولة معبر إلى مركز متكامل يقدم خدماته ل65 دولة من الدول المشتركة في مشروع طريق الحرير.
إيران ستستفيد هي الأخرى من المصالحة مع المملكة، أولا، بتخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من واشنطن وتعويض أضرار العقوبات بمكاسب ضخمة متأتية من علاقتها بروسيا والصين والمملكة السعودية وطريق الحرير.
أول مظاهر استفادة إيران تحققت من خلال السلاح الذي وفرته روسيا لها والمتمثل في صفقة طائرات سوخوي 35 ومنظومة الدفاع الجوي آس 300 التي تحمي بها طهران منشآتها النووية، وبيع النفط الإيراني المفروض عليه عقوبات هو الآخر من إدارة بايدن للصين مقابل استثمارات صينية ضخمة تشمل البنية التحتية وتطوير صناعة النفط والدفاع المشترك بين البلدين.
قدمت الصين نفسها ولأول مرة كطرف وحيد لحل النزاع بين قوتين اقليميتين في الشرق الأوسط وهذا ما يعني دبلوماسيا أنها المسؤولة بشكل مباشر عن أطراف المشكلة وعن حل المشكلة، وإنذار لواشنطن أن من يهاجم السعودية وإيران سيكون قد هاجم الصين شخصيا، وهذا تصرف غريب في عرف الدبلوماسية الصينية ولكن تفسيره واضح بأن الصلح بين طهران والرياض ليس مجرد صلح بين دولتين بل هو تأمين لمصالح الصين في منطقة الخليج وآسيا وتأمين لمشروع الحرير الذي من خلاله ستهيمن الصين على حركة التجارة العالمية عوضا عن أمريكا والإتحاد الأوروبي.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه كيف ستتعامل المملكة مع البرنامج النووي الإيراني؟
عقبة الملف النووي الإيراني
قبل إعلان الاتفاق النووي مع إدارة الرئيس باراك أوباما سنة 2015، استطاعت إيران تخصيب اليورانيوم بنسبة 3.6% وهو الحد المسموح به لإيران وفق اتفاقها آنذاك، ومع تسلم دونالد ترامب مقاليد الحكم في البيت الأبيض واعلانه عن انسحابه من الاتفاق النووي سنة 2018 رفعت إيران مستوى تخصيب اليورانيوم بنسبة 20% كرد واضح على العقوبات الأمريكية والغربية المفروضة عليها.
وبعهدها أعلنت إيران عن وصول نسبة تخصيب اليورانيوم ل 60%. وخلال الأيام الماضية اكتشفت الوكالة الذرية للطاقة خلال تفتيشها للمفاعلات النووية الإيرانية جزئيات يورانيوم مخصبة بنسبة 84% ولا ينقصها سوى 6% لتصبح قادرة على صنع سلاح نووي.
وقد استغلت إيران انشغال المخابرات الأمريكية بحرب روسيا وأوكرانيا واشتغال العالم بالمظاهرات والاحتجاجات الدائرة في أراضيها لتسرع من خطواتها لإكمال برنامجها النووي.
أمام هذا الوضع بات من الصعب توجيه ضربات للمفاعلات النووية الإيرانية مثلما ضربت إسرائيل مفاعل نطانز النووي وذلك بعد الاتفاقيات الأمنية التي وقعتها إيران مع الصين وروسيا وتحديث منظومتها الصاروخية، بل الأهم من ذلك أن إيران نقلت عملية تخصيب اليورانيوم المهمة وأجهزة الطرد المركزي لمفاعل نووي اسمه" فوردو" وهو مفاعل موجود تحت الأرض على عمق 80 مترا، تحت جبل على شكل هرم في منطقة صخرية وعرة وشديدة التحصين بدفاعات جوية روسية يصعب معها استهداف المفاعل النووي.
لذلك ليس من المعقول أن تتخلى إيران عن برنامجها النووي لأجل عيون المصالحة السعودية بعد ما كبدها من عناء وعقوبات كبيرة طالت جوهر نظامها وأعمدته والشيء الوحيد الذي يمكنها فعله هو تأخير استكمال برنامجها النووي في الوقت الراهن.
صراع المحاور
يكشف الاتفاق السعودي ـ الإيراني عن الدور الجديد الذي ستلعبه الصين في الشرق الأوسط والسياسة العالمية وقد تزامن هذا الاتفاق مع إعلان الحزب الشيوعي الحاكم في الصين عن إعادة انتخاب شي جي بين رئيسا للصين لولاية ثالثة، وهو ما سيجعل من الصين فاعلا رئيسيا في رسم النظام العالمي الجديد.
كما أن هذا الاتفاق سيلقي بظلاله على منطقة الشرق الأوسط برمتها وسيأثر إيجابا على الوضع الداخلي العراقي بالتقليل من حدة النزاع، كما سيساهم بدخول الاستثمارات من البلدين إلى العراق، وقد يسهل دخول العراق إلى اتفاقية طريق الحرير بسب الرعاية الصينية للاتفاق وتوسيع دورها في المنطقة، والشيء المهم هو تعزيز الدور الدبلوماسي للعراق في المنطقة بسبب دوره الفعال في المفاوضات التي بدأت في بغداد سنة 2021.
كما يأمل اللبنانيون أن يؤدي هذا الاتفاق إلى انفراج بالوضع السياسي اللبناني ولكن هذا التفاؤل حذر لأن لبنان ليس أولية بالنسبة للسعودية وإيران حاليا كالوضع اليمني الذي يمثل أساس هذا الاتفاق.
يعد الملف اليمني اختبارا رئيسيا في هذا الاتفاق لأنه لو لا اليمن لم تم هذا الاتفاق أصلا. فقد أدرك الجميع بعد 8 سنوات أن الحرب في اليمن حرب استنزاف في الأرواح والأموال والمعدات.
مهدت المملكة لهذا الاتفاق من خلال إعلانها لهدنة طويلة مع جماعة الحوثي وتفاوضت بعد ذلك مع حكومة صنعاء وتبادت الأسرى معها وفتحت مطار صنعاء وزادت من عدد الرحلات فيه وخففت من حصارها المفروض على اليمن بفتح ميناء الحديدة وصرفت رواتب لليمنيين. كل ذلك كان بمثابة بادرة حسن نية من قبل المملكة ورغبة مؤكدة في غلق الملف اليمني.
ستبحث المملكة السعودية من خلال المصالحة مع إيران عن إيجاد تسوية سياسية في اليمن ترضي حكومة عدن وحكومة صنعاء. وهذه النقطة الأساسية التي ستكون اختبارا لهذا الاتفاق.
وما لم تعلنه الرياض صراحة أمام الرأي العام العربي والدولي هو وجود بنود سرية تتعلق باعتراف المملكة بشرعية حكومة صنعاء الحوثية وبمحاولة دمج جمع الأطراف الأخرى تحت هذه الحكومة مع تقديم حكومة صنعاء تنازلات واستيعاب الأطراف المعارضة مقابل الالتزام بالتهدئة ووقف التسليح.
عقيدة ولاية الفقيه وبناء مواطنة كوزموبوليتانية
مهما كانت تفاصيل هذا الاتفاق لن تكف إيران عن سياستها الإقليمية وعن تدخلاتها في شؤون دول الجوار لأنها من طبيعة وجوهر النظام الإيراني القائم على مبدأ تصدير الثورة لدول الجوار ودول الإقليم والعالم كافة، فعدم التدخل في شؤون الدول العربية يعني موت إيديولوجيا نظام الولي الفقيه. وبالمناسبة لا توجد كلمة شعب في الدستور الإيراني الذي يتحدث بالإجمال عن الأمة وعن ولاية الفقيه، يتحدث عن مواطنة كوزموبوليتانية ومن هنا تأتي فكرة تصدير الثورة في الدستور الإيراني وعلى أن الولي الفقيه له الوصاية التي تخطت الحدود الجيوسياسية للدولة الإيرانية وهذا ما يسوغ له التدخل في الدول الأخرى تحت عنوان واسع وعريض وهو الأمة الإسلامية لا شيعية ولا سنية وتصدير الثورة للمستضعفين حسب زعمه.
من وجهة نظري البسيطة أن هذا الاتفاق هو بمثابة استراحة للنظام الإيراني كي يسترد أنفاسه بعد أشهر طويلة من العقوبات والحصار والضربات الإسرائيلية المتتالية والمظاهرات الداخلية التي صدعت أركان البيت الداخلي الإيراني. ولن تتغير سياسات طهران في العراق والبحرين وسوريا ولبنان فكلها مناطق حيوية وضرورية للمشروع الشيعي الأممي الذي تسعى إيران لإكماله ومن ثمة بناء هوية كوزموبوليتانية عالمية كشأن الإتحاد السوفياتي سابقا.
إن مهمة الكوزموبوليتاني في الحقيقة هي أن يتمكن من التركيز على كل من القريب والبعيد في آن معا، والكوزموبوليتانية هي فعل توسعي للخيال الأخلاقي ترى الكائنات البشرية على أنها تقوم بتشكيل حيواتها الخاصة داخل عضويات للتعايش، أسرة هي وطيف واسع من مجموعات الهوية المتداخلة ومزيج من الأعراق والتي تسع لشمل البشرية جمعاء.
عمل النظام الإيراني على أخذ هذا المفهوم من الفلسفة الإغريقية والرومانية ومزجه مع الروح القومية الفارسية بهدف تصدير الثورة وجعل المذهب الشيعي نظام رسالي أممي عالمي يتجاوز الحدود والأوطان من أفغانستان إلى باكستان وأذربيجان إلى العراق ولبنان واليمن وسوريا ودول الخليج بهدف ارجاع مجد الإمبراطورية الفارسية القديمة ، متحيزة لأولئك الذين يرتبطون بالنظام الإيراني بروابط الدم والثقافة والإقليم اعتباطيا من الناحية الأخلاقية، والحقيقة عكس ذلك فالنظام الإيراني ليست له نفس الالتزامات الأخلاقية تجاه الجميع بلا استثناء حتى في النسيج الداخلي الإيراني الذي فضحته قضية مهسا أميني.
قام النظام الحاكم منذ نجاح أيام ثورته الأولى بتفضيل قومية ومذهب على آخر فضل النظام الذين يتقاسم معهم المشاريع والهويات في الداخل والخارج وهي حقيقة واضحة وضوح الشمس في القومية الفارسية التي لا تحترم المكونات الأخرى وتكرس العدائية وارهاب الأجانب، وهذا الجانب من القومية يحتاج إلى تدجين وتشكل الكوزموبوليتانية إحدى وسائل للسيطرة عليه ولكن من الغريب تجاهل الجانب الآخر في القومية وهو قدرتها على جمع الناس معا في مشروع واحد دولتي مواطني يحترم الحقوق والحريات.
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية