دفع الصحفيون والمصورون الفلسطينيون والعرب، والمراسلون الأجانب، ثمنًا باهظًا من دمائهم الزكية لتغطية وقائع العدوان الإسرائيلي الغاشم على المدنيين في قطاع غزة، ومن أجل كشف الحقيقة الدامية لما يحدث في القطاع، من تقتيل وتدمير وتجويع وتهجير جماعي، أمام أعين الرأي العام العالمي.
وفي الثلاثين من ديسمبر/كانون الأول، أعلن مكتب الإعلام الحكومي في غزة، عن استشهاد مراسل قناة "القدس" الفضائية الصحفي جبر أبو هدروس، ليرتفع بذلك عدد الضحايا من الصحفيين منذ بدء العدوان على القطاع في 7 أكتوبر/تشرين الأول حتى تاريخه، إلى 106 شهداء.
وتعكس وقائع الحياة اليومية للصحفيين في قطاع غزة، حجم المعاناة التي يكابدونها، من قتل متعمد بدم بارد، وترويع واعتقالات، واستهداف لأفراد العائلة والمنازل والممتلكات، هذا إلى جانب التهديدات والاعتقالات، في محاولات لا تنتهي من قوات الاحتلال لإسكات صوت الحقيقة الذي يفضح ممارساته ويُعرّي مزاعمه الكاذبة.
وذكر مكتب الإعلام في بيان له: "ارتفاع عدد الشهداء الصحفيين إلى 106 صحفيين منذ بدء حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، بعد ارتقاء الزميل الصحفي الشهيد جبر أبو هدروس، مراسل قناة القدس اليوم الفضائية، حيث قصفت طائرات الاحتلال الإسرائيلي منزلهم المأهول في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة".
وبذلك، يصبح الصحفيون هم "شهود الحقيقة" في غزة، وضحاياها، معًا، رغم أن المادة 79 من البروتوكول الإضافي الملحق بـ "اتفاقية جنيف لعام 1949" الخاصة بحماية المدنيين في أثناء النزاعات العسكرية، تنص على أن "الصحفيين المدنيين الذين يؤدون مهماتهم في مناطق النزاعات المسلحة يجب احترامهم ومعاملتهم كمدنيين، وحمايتهم من كل شكل من أشكال الهجوم المتعمد، شريطة ألا يقوموا بأعمال تخالف وضعهم كمدنيين".
منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حتى هذه اللحظة، نشهد الانحياز الغربي المفضوح إلى السردية الإعلامية الإسرائيلية، وهو ما حاربه الصحفيون والمراسلون الصحفيون الموجودون داخل قطاع غزة منذ اليوم الأول للعدوان، بمحاولاتهم المستمرة لكشف جرائم الإبادة العِرقية التي تقوم بها قوات الاحتلال، وهو ما تواجهه الأخيرة بدرجة غير مسبوقة من التعمد الواضح لقتل الصحفيين وترويعهم، سعيًا إلى طمس حقيقة ما يحدث على الأرض، ومنع وسائل الإعلام من نشر الحقيقة.
واللافت للنظر، أن صوت بعض المنظمات والهيئات الدولية، المعنية بالدفاع عن حرية الصحافة وحقوق الصحفيين، بدا خافتًا خلال تلك المعركة، للدرجة التي دفعتها إلى التلاعب في أرقام شهداء الصحافة في فلسطين وجنوب لبنان خلال الشهرين الأخيرين، بدعوى أنهم "لم يُقتلوا أثناء أدائهم واجبهم بل قُصفوا في منازلهم مع عائلاتهم"، وهو ما يتناقض مع وقائع وشهادات وثّقتها نقابة الصحفيين الفلسطينيين والاتحاد الدولي للصحفيين، الذي وصف قطاع غزّة بأنه "مقبرة الصحفيين".
من جانبها، ذكرت "لجنة حماية الصحفيين الدولية"، ومقرها الولايات المتحدة، إن الأسابيع العشرة الأولى من الحرب الإسرائيلية على غزة كانت "الأكثر دموية" على الإطلاق بالنسبة للصحفيين، إذ سجل مقتل أكبر عدد من الصحفيين خلال عام واحد وفي مكان واحد.
وعبرت اللجنة عن قلقها البالغ إزاء وجود نمط واضح للقصف الإسرائيلي يستهدف الصحفيين وأسرهم. وقالت "إن هذه الجهود في غزة تعطلت بسبب دمار أنحاء واسعة ومقتل أفراد أسر الصحفيين الذين غالبًا ما يمثلون مصادر للمحققين للنظر في كيفية مقتل الصحفيين".
ولاحظت أن الصحافة في غزة قُيدت بشكل حاد، بما في ذلك منع صحفيين أجانب من الوصول بشكل مستقل إلى القطاع تحت وطأة الحرب الإسرائيلية المكثفة، مع تكرار انقطاع الاتصالات ونقص الأغذية والوقود والمأوى.
ويفوق عدد الصحفيين الذين قتلتهم قوات الاحتلال الإسرائيلية في قطاع غزة خلال أقل من ثلاثة أشهر، عدد الإعلاميين (69) الذين قتلوا في الحرب العالمية الثانية خلال ست سنوات (1939 و1945)، والتي توصف بأنها الأكثر دموية التي شهدها العالم الحديث.
ولا يتوقف الأمر على الصحفيين أفرادًا فقط، ولا على عائلاتهم، فقد قصفت قوات الاحتلال الإسرائيلية أكثر من 50 مقرًا إعلاميًا أجنبيًا ومحليًا داخل قطاع غزة خلال الفترة الماضية، من بينها مكاتب عدد من المؤسسات الإعلامية في برج الغفري في غزة، الذي يضم وكالة الأنباء الفرنسية، وقناة الجزيرة، وقناة الشرق، والمجموعة الإعلامية الفلسطينية. كما تعطلت الإذاعات الأربعة والعشرون في قطاع غزة، وتوقفت عن البث بسبب نفاد مصادر الطاقة.
وحذرت قوات الاحتلال بشكل مباشر بعض وكالات الأنباء العالمية من عدم قدرتها على ضمان سلامة موظفيها أثناء القصف، من بينها وكالة "رويترز" التي علقت على هذا التحذير بأنه: "يهدد قدرة موظفيها على إيصال الأخبار حول الصراع دون خوف من الإصابة أو القتل".
والغريب أن الترويع وتقييد حرية الصحافة لا يقتصر على الصحفيين الفلسطينيين فقط، بل يمتد أيضًا إلى الصحفيين الإسرائيليين أنفسهم، وإلى كل صوت يجرؤ على أن يطرح سردية بديلة عن السردية الرسمية الإسرائيلية، فقد اعتقلت السلطات الإسرائيلية الصحفي الإسرائيلي اليساري يسرائيل فراي واستجوبته، مع توجيه التحذيرات له بعد كتابته لتغريدات يشيد فيها بالمقاومة الفلسطينية، لاستهدافها أهدافًا عسكرية وليست مدنية، وحققت معه بتهمة "التحريض على الإرهاب والعنف"، وهو ما وصفته محامية فراي باعتباره "اعتقالًا سياسيًا يهدف إلى الترهيب والإسكات".
يؤكد الدكتور ضياء رشوان، نقيب الصحفيين المصريين السابق، أن هذه الأعداد غير المسبوقة للضحايا من الصحفيين توضح عدة دلالات مهمة ولافتة. الدلالة الأولى هي أنه بصرف النظر عن التفاوت في الأرقام بين "لجنة حماية الصحفيين"، وكل من المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة ونقابة الصحفيين الفلسطينيين، فإن عدد الصحفيين الذين قتلهم العدوان الإسرائيلي خلال شهر ونصف الشهر، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية، يفوق كل الصحفيين الذين قتلتهم القوات الإسرائيلية خلال 23 عامًا منذ "انتفاضة الأقصى" عام 2000، والبالغ عددهم نحو 54 صحفيًا وصحفية.
وتتعلق الدلالة الثانية، وفق رشوان، بما يبدو أكثر من واضح من معظم حالات قتل الصحفيين وبعض أسرهم، أن الأمر في عديد منها ليس مجرد نتيجة لقصف عشوائي طالهم وأسرهم، بل يفضي تكراره إلى الاستنتاج بأن هناك حالات استهداف مؤكدة من جانب القوات الإسرائيلية.
وتنصرف الدلالة الثالثة إلى تنوع المؤسسات الصحفية والإعلامية التي ينتمي إليها هؤلاء الصحفيون الضحايا، فهي تشمل عددًا كبيرًا من المؤسسات الفلسطينية والعربية والدولية، من صحف وقنوات تلفزيونية ووكالات أنباء.
الخلاصة واضحة ومريرة: أن العدوان الإسرائيلي على غزة هذه المرة مصرّ على تحقيق كل "أرقام الدم" القياسية على كل الأصعدة، فها هو يفعلها على الصعيد العالمي مع الصحفيين، حيث لم يؤدِّ أي صراع مسلح سابق في العالم منذ الحرب العالمية الثانية إلى قتل هذا العدد من الصحفيين في تلك المدة القصيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
1- صحفيون من غزة يكتبون "رسائلهم الأخيرة"، موقع بي بي سي عربي، 5 ديسمبر/كانون الأول 2023.
2- الحرب على الحقيقة.. لماذا تتعمد إسرائيل استهداف الصحفيين الفلسطينيين؟، موقع الجزيرة، 4 ديسمبر/كانون الأول 2023.
3- الصحافيون في غزة شهود على الحرب وضحايا لها، موقع الشرق الأوسط، 19 ديسمبر/كانون الأول 2023.
4- طوفان الأقصى: ارتفاع عدد الصحفيين القتلى في غزة إلى 106، موقع يمن فيوتشر، 30 ديسمبر/كانون الأول 2023.
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية