تملّصت إيران من حرب غزّة، ومن التزامها المعلن بـ "نصرة المستضعفين" في فلسطين، بطريقة ملتوية، منذ لحظة اندلاع الحرب على جناح عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل الماضي.
فعلت إيران ذلك عن طريق التبرع بالقول، عبر مسؤولين فيها وقياديين في ميليشيات شيعية تابعة لها، أنّه لم يكن "لديها علم" بتوقيت الهجوم البطولي الذي شنته حركة "حماس" في منطقة غلاف غزّة.
وأعقب ذلك التملص الإيراني، سلسلة تسريبات في وسائل إعلام كشفت عن الأسباب التي دفعت طهران، ولا تزال تدفعها، إلى الاكتفاء بدور مساند لـ "حماس" في الحرب الوجودية التي تخوضها، لإحياء القضية الفلسطينية من جديد، وجعلها في صدارة أولويات المجتمع الدولي.
ورغم محاولة نظام الملالي تأمين الحماية والدعم لحركة "حماس" باعتبارها حليفة مفترضة للمحور الإيراني في الإقليم، إلا أن هذا المحور وقيادته سواء في طهران، أو في ضاحية بيروت الجنوبية والأمين العام لـ "حزب الله" اللبناني، حسن نصر الله، مارسوا أعلى مستوى من ضبط النفس لعدم الانجرار إلى هذه المعركة وفتح الجبهة اللبنانية.
اعتبر وكلاء إيران أن ما يمكن أن يربحوه من هذه الحرب، إذا ما استطاعوا التوصل إلى وقف لإطلاق النار، أكثر بكثير مما قد يربحونه في حال توسيع دائرة النار، لأن النتائج ربما لا تكون مضمونة، خاصة أن المعركة لن تقتصر على الجانب الإسرائيلي، بل من الممكن أن تدفع واشنطن إلى الدخول فيها مباشرة.
ومن كانوا يتوقعون أن حرب غزة هي فرصة إيران لتنفيذ وعيدها بـ "إنهاء إسرائيل من الوجود"، فوجئوا بحجم الانضباط الإيراني وقدرة النظام على هضم الإحراج الهائل الذي يعانيه في عيون أجنحته المتشددة في الداخل وحلفائه في الإقليم".
ويقول الكاتب نديم قطيش: "حتى إشعار آخر، لن تدخل إيران في حرب إقليمية مباشرة، ردًا على الحرب الإسرائيلية غير المسبوقة على غزة، في أعقاب هجوم "حماس"، ببساطة شديدة، إيران ليست معنية بالمشاركة العسكرية في الحرب، بقدر ما تصب جل تركيزها على "استثمار الحرب" لتعزيز موقعها على رقعة النفوذ في الشرق الأوسط.
وإذا تركنا جانبًا التصريحات النارية للمسؤولين الإيرانيين ولبعض قادة الميليشيات الحليفة لها، سنكتشف أن الواقع على الأرض يشير إلى لعبة إيرانية أكثر دقة، تهدف إلى تعزيز سيطرة طهران في مجال نفوذها، وتحديدًا العراق ولبنان واليمن، مع تجنب مخاطر أي حرب شاملة.
من جهة ثانية، يشكل اليمن الساحة الثانية التي تنشط فيها إيران على خلفية حرب غزة، بهدف استعراض موازين القوة، وفرض وقائع جيوسياسية على الأرض، تكون هي الأساس في أي ترتيبات سياسية مستقبلية لمعالجة الأزمة اليمنية؛ فالصواريخ والمسيرات التي انطلقت من اليمن باسم "إسناد غزة"، واعتُرضت من السفن الأمريكية المنتشرة في مياه الخليج، لا تشكل تهديدًا حقيقيًا لـ (إسرائيل)، بل توظف لتعزيز معنويات ميليشيا "الحوثي"، والرفع من شأنها في الداخل اليمني، وتقوية مكانتها على طاولة التوازن الاستراتيجي في المنطقة. كما أنها تبعث بالرسائل لدول الخليج تستعجلها على القبول بما صارت عليه ميليشيا الحوثي لا ما كانت عليه في السابق.
وعبر إظهار الحوثيين كمدافعين عن القضية الفلسطينية، تسعى إيران لنقل هذه الميليشيا من طرف منخرط في صراع داخلي، إلى جهة فاعلة على المسرح العربي الأوسع المشحون عاطفيًا اليوم.
وتأمل طهران أن يُبدد هذا التموضع صورة "الحوثي" متمردًا يخوض صراعًا على السلطة، ويمنحه دور البطولة في قضية لها صدى عميق لدى الشعب اليمني والمجتمع الإسلامي الأوسع.
تعرف إيران أن صواريخ ومسيرات الحوثي القليلة وعديمة الفائدة ضد (إسرائيل)، ستجد طريقها إلى صدارة عناوين الأخبار الدولية بشكل واسع الانتشار، وأنها ستعزز مكانة الميليشيات اليمنية في أنظار الرأي العام العربي.
وفي هذا الصدد، جاء خطاب زعيم ميليشيا "حزب الله" اللبنانية حسن نصر الله واضحًا، في سياق استخدام حرب غزة لتعزيز السردية الداخلية حول سلاحه، ودور هذا السلاح في حماية اللبنانيين.
قال نصر الله بوضوح إن (إسرائيل) مردوعة تجاه لبنان بسبب سلاحه، ما يعني أنه سيزيد من الضغط لإنتاج معادلة سياسية في لبنان تحمي هذا السلاح ولا تفرط فيه «خدمة لإسرائيل». كل ما طال الحزب من انتقادات بسبب تقاعسه عن نصرة غزة، يمكن هضمه في سبيل تحقيق الهدف الأهم، وهو تعزيز مشروعية سلاح الجماعة، وكسب نقاط جديدة في إطار "نصرة فلسطين".
في المقابل، يعيش الداخل الإيراني على وقع الخطابات والأناشيد الثورية، ومنها "أغنية وين الملايين" التي تبث باستمرار في التلفزيون الحكومي هذه الأيام، فيما تحذر شريحة من الأوساط الإيرانية من مغبة الوقوع في "الفخ" الذي ينصبه الأعداء في غزة، وتطالب بتحكيم العقلانية لتفويت الفرصة على "المتربصين بالجمهورية الإسلامية".
ويرى السياسي الوزير السابق للطرق والتنمية الحضرية، عباس آخوندي، أن "خوض إيران الحرب مع (إسرائيل) وأمريكا مطلب إسرائيلي ولكل منهما مصالحه"، مضيفًا في تغريدة أن "(إسرائيل) تبحث عن مخرج للتخلص من ضغوط الرأي العام العالمي المتواصلة؛ بسبب حربها غير المتكافئة بحق الفلسطينيين وخوض معركة تقليدية".
بدوره، يعتقد أستاذ الجغرافيا السياسية في جامعة الخوارزمي يد الله كريمي بور، أنه "لا خيار أمام الجمهورية الإسلامية سوى النأي بنفسها من معركة غزة"، مضيفًا أن خوض طهران المعركة قد يوسع رقعة الحرب إلى أبعد من دول الطوق؛ مثل: العراق واليمن، ناهيك عن احتمال إشعال جبهتي جنوب لبنان وغرب سوريا.
بينما رأى الأكاديمي الإيراني، أن توسيع نطاق الحرب عقب دخول طهران علی خط النزاع سيؤدي إلى إشعال فتيل حرب إقليمية، قد يستدعي خطوات عالمية لإخمادها، مشيرًا إلى أن ذلك قد يمهد إلى انخراط الولايات المتحدة وحلف "الناتو" في الصراع الدائر حاليًا.
ويعتبر كثير من الإيرانيين أن انخراط بلادهم في معركة غزة، قد يرفع احتمال نشوب احتجاجات داخلية وتحركات قومية وطائفية في بعض مناطق البلاد، وحينها سترى السلطات نفسها مجبرة على توظيف جزء من قدراتها الردعية لضمان الأمن في الداخل.
وفي السياق نفسه، يعتقد الكاتب والباحث السياسي الإيراني كيومرث أشتري، أن الخيار العسكري قد يسوغ تدخل طهران في المعركة عندما يكون التهديد الإسرائيلي محدقًا.
وأضاف أشتري في مقال له نشرته صحيفة "شرق" تحت عنوان "الخيار العسكري في فلسطين"، أن الخيار العسكري قد يكون مفيدًا في الردع وإبعاد شبح التهديد من حدود الجمهورية الإسلامية، إلا أن مستوى المجازفة سيكون أعلى مقارنة مع التهديدات المحتملة.
ورغم انقسام الإيرانيين، بين من يرى التدخل العسكري ضرورة لتحييد الخطر الإسرائيلي، ومن يحذر من خطورة القرار، تبقى عيونهم شاخصة إلى فلسطين، لمتابعة قدرة بلادهم على ترتيب "قطع الشطرنج" ضمن مشهد النزاع المتواصل في الشرق الأوسط.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
1- الحرب في غزة والمصلحة الإيرانية، موقع إندبندنت عربية، 19 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
2- لماذا لم تتدخل إيران في حرب غزة حتى الآن؟، موقع العمق المغربي، 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2023.
3- هكذا ترد إيران على حرب غزة، موقع الشرق الأوسط، 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2023.
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية