في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، كشفت مصادر إيرانية أن مرشد النظام علي خامنئي، طالب إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" الفلسطينية خلال لقائهما في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني، بـ "إسكات الأصوات" التي تطالب إيران وميليشيا "حزب الله" اللبنانية، بالتدخل في الحرب ضد (إسرائيل)، قائلًا إن "طهران لن تدخل الحرب نيابة عن حماس لأنها لم تُبلّغ مسبقًا بهجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول على (إسرائيل)"!
ونقلت المصادر، حسبما أوردت وكالة "رويترز"، في حينه، عن خامنئي قوله لـ "هنية"، إن إيران ستواصل تقديم دعمها السياسي والمعنوي للحركة، لكن دون التدخل بشكل مباشر في حرب غزة، لردع العدوان الإسرائيلي على القطاع.
وذكر مسؤول من حماس لـ "رويترز" أن خامنئي حث على إسكات تلك الأصوات في الحركة الفلسطينية، التي تدعو علنًا إيران وذراعها اللبناني ميليشيات "حزب الله" إلى الانضمام إلى المعركة ضد (إسرائيل) بكامل قوتهما.
وأفادت «رويترز» عن ثلاثة مصادر قريبة من «حزب الله» أن الجماعة فوجئت أيضًا بالهجوم الذي شنته حماس الشهر الماضي وأن مقاتلي الجماعة لم يكونوا في حالة تأهب حتى في القرى القريبة من الحدود والتي شكلت الخطوط الأمامية في حربها مع (إسرائيل) عام 2006 وكان لا بد من استدعائهم بسرعة. وقال قيادي في «حزب الله»: «لقد استيقظنا على الحرب».
تمثل الجولة الجديدة من العدوان الإسرائيلي على غزة مأزق للجماعات الشيعية المسلحة في المنطقة من "وكلاء إيران"، الذين تسميهم طهران "محور المقاومة"، فقد أكدت الأحداث في غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أن "محور المقاومة" المزعوم هذا، ما هو إلا وهمٌ إيرانيٌّ محض.
وقال مسؤولون إيرانيون، بعد تصاعد الهجمات على القوات الأمريكية في سوريا والعراق، إن الجماعات المسلحة تتخذ قراراتها بشكل مستقل. لكن طهران في الوقت نفسه حذرت من "توسع الحرب".
ولوح المسؤولون الإيرانيون بالرد إذا ما تعرضت طهران لهجمات إسرائيلية أو أمريكية، لكنها لن تتدخل بشكل مباشر في الصراع ما لم تتعرض هي نفسها للهجوم.
وقال المسؤولون إنه بدلًا من ذلك، يخطط حكام إيران لمواصلة استخدام الجماعات المسلحة، بما في ذلك «حزب الله»، لشن هجمات بالصواريخ والطائرات المسيرة على أهداف إسرائيلية وأمريكية في أنحاء الشرق الأوسط. وأضافوا أن هذه الاستراتيجية تهدف لإظهار التضامن مع حماس في غزة وإرهاق قوات الاحتلال الإسرائيلي دون الدخول في مواجهة مباشرة مع (إسرائيل) يمكن أن تستقطب الولايات المتحدة.
وقال دنيس روس، الدبلوماسي الأمريكي الكبير السابق المتخصص في شؤون الشرق الأوسط والذي يعمل الآن في معهد أبحاث واشنطن لسياسات الشرق الأدنى "هذه هي طريقتهم في الردع... طريقة تقول انظروا، طالما لم تهاجمونا فستبقى الأمور على هذا الوضع. ولكن إذا هاجمتمونا فسيتغير كل شيء".
وتبادل «حزب الله»، أقوى شريك في محور المقاومة، والذي يضم 100 ألف مقاتل إطلاق النار مع قوات الاحتلال الإسرائيلية عبر الحدود بشكل يومي تقريبًا منذ أن دخلت حماس في حرب مع (إسرائيل) وأسفر ذلك عن مقتل أكثر من 70 من عناصر «حزب الله». ومع ذلك تجنب «حزب الله» مثل إيران الداعمة له المواجهة الكاملة.
وقالت مصادر مطلعة على تفكير «حزب الله» إن الجماعة جعلت هجماتها محسوبة بطريقة أبقت العنف محدودًا إلى حد كبير في شريط ضيق من الأراضي على الحدود، حتى مع تصعيد تلك الضربات في الأيام القليلة الماضية. وقال أحد المصادر إن «حماس» تريد من «حزب الله» أن يشن ضربات أعمق داخل (إسرائيل) بترسانته الهائلة من الصواريخ، لكن «حزب الله» يعتقد أن هذا سيدفع (إسرائيل) إلى تدمير لبنان دون وقف هجومها على غزة.
يقول الكاتب والمحلل السياسي فايز سارة، إن "الصدفة" وحدها لم تكن وراء الإنكار المتكرر الصادر عن قادة إيران والميليشيات المسلحة التابعة لها في المنطقة، وتأكيد أن قرار عملية «طوفان الأقصى»، هو قرار حركة «حماس»، بمعنى أنه لم يكن لأي طرف خارجي دور أو معرفة مسبقة بتلك العملية الباسلة.
إنكار إيران وأدواتها الصلة والمعرفة بـ «عملية الأقصى» لم يصدر فور حدوث العملية؛ بل بعد أن أخذت تداعياتها تتوالى وتتصاعد على المستويين الإسرائيلي والدولي؛ حيث أطلقت العملية جنون القوة الإسرائيلي إلى مداه الأقصى، وهو أمر كان منتظرًا من حكومة متطرفة يقودها بنيامين نتنياهو، ويشارك فيها غلاة المتطرفين الإسرائيليين.
ويبدو أن إيران وأدواتها لم يدركوا في البداية حجم ردة الفعل الإسرائيلية- الأمريكية، فأصدروا موجة من المواقف المعتادة، بينها تحذير (إسرائيل) من فتح جبهات متعددة عليها، والتهديد بالتدخل في حال قامت (إسرائيل) بغزو القطاع، وبدأت مناوشات بين «حزب الله» و(إسرائيل) في جنوب لبنان، وتهديدات من ميليشيات عراقية ويمنية، بينما تحرك وزير خارجية إيران باتجاه بلدان رغب في كسب دعمها لموقف إيران؛ لكن دون أثر ملموس.
وبدا من الواضح لإيران أن ردة الفعل الإسرائيلية- الأمريكية لا تقبل المناورة على نحو ما تفعل إيران عادة، وأنه لا مجال أمامها لتحقيق أي مكاسب عبر تسويات وتنازلات وعمليات ابتزاز. وأدركت طهران أن الأمر هذه المرة مختلف عما حصل من مواجهات عبر أدواتها مع الإسرائيليين والأمريكيين في لبنان وفي سوريا والعراق وفلسطين؛ حيث كان الإيرانيون يحصلون على جوائز ترضية، أو شيء ما يستر تنازلهم.
وكشفت طهران هشاشة وضعف موقفها في ضوء 3 حقائق، تضاف إلى عدم وجود فرص المناورة والمساومة: أولها مضي الإسرائيليين والأمريكيين إلى أعلى مستويات التصعيد، فالعدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين في غزة، صعد إلى أكثر مستوياته وحشية من دون أن يكون له أفق عملي يقف عنده، ومدت (إسرائيل) عملياتها إلى الضفة الغربية لمنع الفلسطينيين هناك من أي جهد يساعد فلسطينيي غزة.
والثانية تصعيد أمريكي وأوروبي في دعم (إسرائيل) بصورة غير مسبوقة، شمل زيارة زعماء ووزراء وقادة رأي عام، وتقديم مساعدات وأسلحة، وزاد إلى ما سبق تكثيف الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة بصورة لم تحصل منذ وقت طويل، بالتزامن مع تصعيد التهديدات الأمريكية ضد إيران وأدواتها.
والحقيقة الثالثة والأخيرة تتعلق بأدوات إيران وقدرتها على المشاركة في الحرب عبر فتح جبهات مع (إسرائيل)، والأهم في هؤلاء «حزب الله» الذي يواجه رفضًا لبنانيًا واسعًا ضد جر لبنان إلى مواجهة عسكرية خاسرة مع (إسرائيل)، فذهب نحو أقصى ما يمكنه من التعامل مع (إسرائيل) في قصف عبر الحدود، ضمن تفاهم متفق عليه باسم قواعد الاشتباك.
وبخلاف وضع «حزب الله»، فإن أوضاع قوات إيران وقوات أدواتها في سوريا، لا تسمح لأسباب كثيرة بأي حركة ضد (إسرائيل) التي تستبيح معسكرات ومقرات الجميع، في عمليات واسعة ومتلاحقة من دون أدنى رد. أما الطرفان العراقي واليمني من أدوات إيران، فالأول قام بعمليات قصف شكلية ضد قواعد أمريكية في العراق وسوريا، أعقبها صدور إنذارات بحقه، يقال إنها جدية، والطرف اليمني الذي يمثله الحوثيون قصف بعض صواريخ باتجاه (إسرائيل) دون تأثير ملموس.
وسط واقع حال يبين فوارق عدوان (إسرائيل) على قطاع غزة في أبعاده المحلية والإقليمية والدولية، واختلافه عن حروب (إسرائيل) السابقة عبر العقدين الماضيين، سواء ما جرى منها في لبنان أو في فلسطين وفي قطاع غزة، فلم يكن أمام إيران وأدواتها إلا أن يحنوا رؤوسهم، والسير في سياسة التسويف عبر الانتظار وتمرير الوقت، ومنه انتظار «حزب الله» أسابيع قبل أن يخرج زعيمه بلا موقف من الحرب، مكررًا موقف إيران وبقية الأدوات في إنكارهم المعرفة والصلة تاليًا بعملية «طوفان الأقصى»، وتخفيف حدة مواقفهم في مواجهة الحرب على الفلسطينيين، بما يؤكد امتناعهم عن الانتصار للأخيرين ودعمهم، على نحو ما سعى إلى تأكيده ترويج شعار "وحدة ساحات المقاومة والممانعة".
خلاصة القول: إن إيران وأدواتها تخلُّوا عما روَّجوا له طويلًا في نصرة الفلسطينيين في مواجهة الحرب الإسرائيلية عليهم، وتركوهم يواجهون عدوانًا مدمرًا، رغم تفاهم إيراني مسبق مع «حماس» على مقدمة الحرب في «طوفان الأقصى»، ومساندة زائفة من القوى الأخرى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
1- خامنئي طلب من هنية إسكات المطالبين بتدخل إيران و«حزب الله» في الحرب، موقع الشرق الأوسط، 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2023.
2- جبهة غزة ليست الوحيدة.. هل تتدخل إيران مباشرة بالحرب؟، موقع سكاي نيوز عربية، 27 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
3- الحرب على غزة: مأزق إيران وأدواتها، موقع الشرق الأوسط، 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2023.
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية