بعد نحو أربعة عقود من العنف الدموي، الذي أودى بحياة ما لا يقل عن 40 ألف شخص، أطلق الزعيم الكردي عبد لله أوجلان نداء السلام التاريخي من سجن إمرالي، وفتح بذلك هوة في جدار النكران التي يحجب المسألة الكردية في تركيا طوال عقد كامل مضى، منذ أن أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إنهاء "عملية الحل" التي كانت بينه وبين "العمال الكردستاني" خلال الأعوام 2013-2015.
وبعد ساعات قليلة من إعلان حزب "المساواة وديمقراطية الشعوب" المؤيد لحقوق الكرد في تركيا عن موقف سياسي محايد مما يجري في تركيا، إثر اعتقال رئيس بلدية مدينة إسطنبول أكرم إمام أوغلو، واندلاع مظاهرات عارمة في مختلف أنحاء البلاد، ألغت الحكومة التركية زيارة وفد الحزب المقررة إلى الزعيم الكردي عبد الله أوجلان في سجنه، ومنعت نشر أي خطاب لـ أوجلان بمناسبة "عيد نوروز".
ولا شك أن في ذلك دلالة قوية على التأثر المتبادل بين الثنائيتين الراهنتين في البلاد حاليًا: المواجهة السياسية "الصفرية" الجارية في تركيا، وعملية السلام بين الحكومة والكرد، والتي تخوّف كثير من المراقبين أنها قد تكون مجرد "ورقة سياسية" أطلقها النائب المتطرف دولت بهجلي، لإطالة بقاء الرئيس أردوغان في السلطة، وتمكينه من الترشح لفترة رئاسية جديدة.
أظهرت المحكمة التركية، رئيس بلدية إسطنبول المعتقل أوغلو كـ "متعاون" مع حزب "العمال الكردستاني"، وتاليًا محاكمته كشخص "إرهابي"، وبدأ الاستعداد للإطاحة بعملية التفاوض الحالية تمامًا بسبب ذلك. وليس مجرد "فاسد" إداري كما يزعم نظام أردوغان، وليست قضيته مفصولة عن المسألة السياسية الرئيسة في البلاد.
ولقد كان حزب "المساواة وديمقراطية الشعوب" أهم الفاعلين الدافعين نحو السير في ركب عملية السلام، فالحيوية والزخم الذي أظهره قادة الحزب خلال الأسابيع الماضية، متنقلين بين سجن إمرالي، وجبال قنديل حيث قواعد "حزب العمال"، والقصر الرئاسي في أنقرة، أظهرته كجهة صاحبة مصلحة فيما يجري، كتنظيم سياسي فاعل، يريد الإمساك بعصب المسألة الأهم في البلاد، وهي عملية السلام الكردي- التركي.
"الدولة العميقة" التركية
يُمثل الكرد الآن زخمًا متزايد ودورًا محوريًا في الانتخابات الرئاسية والمشهد السياسي التركي، في ظل تراجع نفوذ حزب "العدالة والتنمية" الحاكم بقيادة أردوغان، حيث يفتقر الحزب الحاكم الأغلبية اللازمة داخل البرلمان، ويحتاج إلى تسوية مع الأحزاب الكردية داخل البرلمان. كما يعزز فرص أردوغان وتحالفه في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة من خلال استقطاب الأصوات الكرديّة لمصلحته حيث يشكل الكرد نحو 13% من القاعدة الناخبة في تركيا.
وغنيّ عن البيان، أن النواة الصلبة ضمن "الدولة العميقة" التركية لا تبدو قابلة بمنح الفاعلين الكرد مثل هذه الفرصة الاستثنائية. وذلك عبر إجراءات توحي بأن ما فتح من هوة سياسية هو بمثابة فرصة استثنائية وحيدة وناجزة، لا يمكن استخدامها ضمن اللعبة السياسية الكلية، فإما القبول والسير بها في مسار وحيد الاتجاه، وإما رفضها، وتاليًا مواجهة عواقب استخدامها كورقة للمساومة واللعب السياسي.
والسؤال الذي طرح نفسه: هل الحكومة التركية مستعدة حقًا لتقديم تنازلات جوهرية للكرد، من أجل تحقيق السلام على الأرض عبر الاستجابة للمطالب الكردية؟ وهل تركيا مستعدة للانتقال إلى الحكم المحلي على غرار الدول الأوروبية، في الوقت الذي يتجه فيه أردوغان إلى المركزية الشديدة للسلطة، ويحصر كل مفاتيح السلطة والحكم بيده، ويستخدم عملية السلام كورقة للمساومة السياسية مع الأحزاب المؤيدة لحقوق الكرد؟
وفي المقابل: هل المقاتلون الكرد التابعين لحزب "العمال الكردستاني" مستعدون للنزول من الجبال، وهو الحزب الذي قدم تضحيات كبيرة خلال العقود الماضية، ويقبل بالرضوخ للحل التركي الذي يريده أردوغان في "خدمة" سياساته الداخلية والإقليمية؟
في أول ردود فعل من جانب "العمال الكردستاني"، أعلنت اللجنة التنفيذية للحزب قبولها دعوة "العم الكبير"، أو "آبو"، من أجل السلام والديمقراطية، وأبدت قبول تنفيذها والاستعداد لإلقاء السلاح وحل الحزب، وكخطوة لإبداء حسن النية أعلن الحزب وقفًا فوريًا لإطلاق النار، والالتزام بالدفاع عن النفس في حال تعرضه لأي هجوم.
ولكي تتحول دعوة أوجلان إلى واقع، طالب الحزب بعدة شروط وصفها بـ "الضمانات"، تتمثل في بناء مناخ ديمقراطي، يتيح بناء التآخي ويستند إلى "أرضية قانونية" أيضًا لضمان النجاح. مع التأكيد على أن هذه العملية التاريخية التي ستُعيد بلورة حقائق جديدة في تركيا وفى الشرق الأوسط ككل، بما في "تطوير الحياة الحرة والحكم الديمقراطي".
موقف "العمال الكردستاني" يؤكد أن ثمة إدراكًا ووعيًا بخطورة عملية حل الحزب، ما لم تكن هناك عملية متكاملة لحصول الكرد على حقوق سياسية كمواطنين بلا مضايقات أو قيود، ولذا تأتى الدعوة بأن يقود أوجلان بعد تحريره من محبسه تلك العملية الحساسة باعتباره صاحب المكانة والزعامة الفكرية والسياسية، وأنه الأقدر على إدارة فترة السلام والمجتمع الديمقراطي. وذلك بالرغم من حبسه وعزله أكثر من ربع قرن.
من جهة ثانية، يقاوم القوميون المتطرفون حاليًا الدعوة لتقديم ما يسمونه "تنازلات كبيرة" للكرد، بسبب المخاوف من أنها قد تمهد الطريق لدولة كردية في نهاية المطاف. كما ترفض بعض أحزاب المعارضة والقوميين التفاوض مع أوجلان، رافضين مبادرة دولت بهجلي ووصمه بـ "الخائن"، معتبرين أن المبادرة تُخالف أسس الدولة التركية، وأنها ضربة للكفاح ضد الإرهاب، لذلك قد تتسبب الأطراف المتشددة التركية في الرجوع إلى نقطة الصفر.
مخاوف الكرد المشروعة
على الناحية الأخرى، يشعر كثيرون من الكرد بالقلق من أن اعتقال كريم إمام أوغلو، المنافس السياسي الأول للرئيس أردوغان، قد يشير إلى تحوّل استبدادي يغلق المجال أمام هذه المصالحة التاريخية.
مثل هذه المخاوف المشروعة، خلال الاحتفالات بعيد "نوروز" في مدينة آمد (ديار بكر) مؤخرًا، بحضور مئات الآلاف من المشاركين، فقد تشابكت أيدي المحتفلين ورقصوا في صفوف على أنغام الأغاني الكردية، وهتفوا دعمًا للزعيم الكردي الأسير عبد الله أوجلان، معربين عن قلقهم البالغ من اعتقال أوغلو، المؤيد لحقوق الكرد، باعتباره ضربة للديمقراطية في تركيا.
ولا جدال أن احتمالات إتمام عملية السلام التركية مع الكرد مرتفعة هذه المرة، والفرق هو أن جهود السلام هذه المرة مدفوعة بالسياسة الداخلية والتطورات الإقليمية، ولاسيما أن أوجلان أوضح في رسالته، أن تركيا تغيّرت عن الفترة التي تأسس خلالها "حزب العمال الكردستاني"؛ والتي كانت الدولة التركية تقيد فيها حقوق الكرد، لكن الهوية الكردية لم تعد مُنكرة في تركيا، فقد قامت تركيا في العقود الأخيرة بإزالة بعض القيود المفروضة على استخدام اللغة الكردية والتعبير الحر عن الهوية الكردية.
وينبغي على أردوغان الكفّ عن التلاعب السياسي بالورقة الكردية، وإدراك أن وراء خطوة الحل السلمي للقضية الكردية ثمة مكاسب استراتيجية تنتظره، على المستوى الإقليمي والدولي، وهي السعي لكسب كرد المنطقة في العراق وسوريا وإيران إلى جانبه في معركة الاصطفافات الإقليمية الجارية، فضلًا عن إعطاء "درس ديمقراطي" في المنطقة لجهة كيفية حل المشكلات القومية، والأهم تقوية موقع تركيا في الاستراتيجية الغربية ولاسيما أوروبا، حيث الطموح التركي القديم إلى نيل العضوية الأوروبية.
وفي التحليل الأخير، تشكّل عملية السلام التركية الكردية فرصة فريدة للقادة الأتراك لتبنّي سياسات شاملة لمعالجة القضية الكردية الأكبر والأوسع نطاقًا، سواء داخل تركيا أو خارجها؛ ويمكن لقادة الكرد في مختلف أنحاء المنطقة أن يتبنّوا هذه المبادرة ويحولوها إلى خريطة طريق للسلام الدائم. ويتعيّن على الأتراك والكرد أن يكونوا منفتحين على دعوة الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية الأخرى، للعب أدوار بناءة والاستثمار في السلام والازدهار الإقليمي الأوسع.
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية