وسط التداخلات المعقدة بين الانتماء القومي والهويّة العشائرية، وبين الجغرافيا السياسية والتكوين الاجتماعي، يصدر كتاب "العشائر الكردية" للباحث الكردي البارز فؤاد حمه خورشيد كمرجع نادر وموسوعي، يقدّم خريطة دقيقة وشاملة للعشائر الكردية، نشأتها، علاقاتها، امتداداتها، وصراعاتها الداخلية والخارجية.
الكتاب، الذي يقع في 162 صفحة، ويعدّ ثمرة جهد بحثي طويل امتد لسنوات، لا يكتفي بالتوثيق الجغرافي أو الإحصائي للعشائر، بل يشتبك معها من منظور أنثروبولوجي-سياسي، واضعًا إياها في سياق التحولات التاريخية التي عصفت بالمجتمعات الكردية منذ العهد العثماني وحتى بدايات القرن الحادي والعشرين.
ينقسم الكتاب إلى عدة محاور رئيسية، يمكن تصنيفها ضمن ثلاث دوائر مترابطة:
يفتتح المؤلف بدراسة لمفهوم العشيرة نفسه، محددًا موقعها في التركيبة الكردية، ومقارنًا إياها بنظيراتها في المجتمعات الشرق أوسطية. ويقدّم رؤية نقدية لدور العشيرة في تشكيل الوعي السياسي والاجتماعي عند الكرد، كما يضع خطوطًا فاصلة بين "العشائرية" كمنظومة اجتماعية تقليدية، و"القبلية" بوصفها أداة سياسية.
يعرض حمه خورشيد العشائر الكردية الأساسية، متناولًا جذورها، مناطق انتشارها، تعدادها، وفروعها المتفرعة. وتشمل القائمة أبرز العشائر مثل: البرزنجي، الزازا، البرازية، السورجي، الطالباني، الجاف، الهركي، الشكاك، البارزاني، والرواندوزي، وغيرها من العشائر التي كانت بمثابة وحدات سياسية في فترات من التاريخ، وليست مجرد تجمعات اجتماعية.
يتناول المؤلف تداخل البنية العشائرية مع الأحزاب السياسية الكردية، لا سيما في العراق وتركيا، موضحًا كيف شكلت العشائر في بعض الأحيان سندًا أو تهديدًا للقيادات السياسية الكردية. كما يضيء على أدوار الزعامات العشائرية في الحروب، المصالحات، النزاعات الحدودية، والتحالفات الإقليمية.
يمتاز كتاب "العشائر الكردية" بكونه عملًا توثيقيًا متينًا، يعتمد على وثائق عثمانية، ومصادر عربية وكردية وفارسية، إضافة إلى روايات شفهية جمعت من شيوخ العشائر ومؤرخي المناطق. ويظهر جهد المؤلف في الجمع بين التوثيق الأكاديمي والعمل الميداني، ما يمنح الكتاب مصداقية عالية وتفاصيل دقيقة يصعب العثور عليها في مراجع أخرى.
يطرح المؤلف، بجرأة الباحث النزيه، تساؤلات عن مدى تأثير العشائرية في تعطيل بناء المؤسسات الكردية الحديثة، خاصة في كردستان العراق. كما يحذر من إعادة إنتاج الهياكل التقليدية في الخطاب السياسي المعاصر، ويدعو إلى فصل الانتماء العشائري عن التمثيل السياسي، دون إلغاء البعد الثقافي والرمزي للعشيرة.
يستعرض كتاب «العشائر الكردية»، عددًا كبيرًا من العشائر الكردية، موزعة على مناطق مختلفة من كردستان (إيران، العراق، وشرق تركيا)، مبيّنًا خصائص كل عشيرة، ومواضع سكنها، ونسبها، وعدد بيوتها (الخيام أو العوائل)، وأسماء شيوخها، وأحيانًا ولاءاتها الدينية أو المذهبية.
أبرز العشائر التي تناولها الكتاب:
واحدة من أكبر وأقوى العشائر الكردية.
تنتشر في السليمانية وكرميان وجنوب شرقي كردستان العراق وغرب إيران (سنه وباوه). لعبت دورًا سياسيًا كبيرًا، وكانت على علاقة مركبة بالدولة القاجارية والعثمانية، وبلغ عدد بيوتها آنذاك أكثر من 2000 بيت، وهو رقم ضخم في قياسات تلك الحقبة.
تنتشر قرب دربندخان وسيد صادق، تعود بأصولها إلى مناطق الزور، وهم أهل زراعة وتجارة أيضًا.
عشيرة حدودية كبرى، تتوزع بين إيران والعراق وتركيا، وعُرفت بالتنقل واحتراف التهريب والتجارة عبر الجبال. ذات استقلالية عالية عن الدولة المركزية.
تسكن في المناطق الغربية من كردستان (ديار بكر، تونجلي، بينغول).
لغتهم قريبة من اللهجة الزازكية (Zazaki)، وتقاليدهم مستقلة نسبيًا عن السورانيين والبهدينانيين.
تنتشر في السليمانية وشهرزور.
لها طابع ديني واضح، وقد خرّجت شخصيات صوفية بارزة (مثل الشيخ محمود الحفيد)، وتتداخل في البنية القبلية والدينية في آن.
من عشائر كرميان.
تتميز بهيكل عسكري تقليدي، وقد شاركت في الثورات الكردية المسلحة.
العشيرة الحاكمة لإمارة بابان، عاصمتها السليمانية، وتمثّل الأرستقراطية الكردية في القرنين 18 و19. لعبت دورًا حيويًا في التأسيس السياسي والثقافي للمنطقة.
تنتشر حول كويسنجق وقرتبة.
ذات طابع زراعي مستقر، وتُعرف بحفاظها على العادات الكردية الصارمة.
نسبة إلى بلدة خورمال، ومعظمها من أتباع الطريقة النقشبندية، وشاركت في نشاط ديني وسياسي ملحوظ.
يُعد "العشائر الكردية" مساهمة مهمة في حقل الدراسات الكردية والأنثروبولوجية، لأنه يوفّر نظرة شاملة إلى مكون أساسي من مكونات الهوية الكردية. كما يفيد صنّاع القرار والباحثين في فهم آليات النفوذ المحلي، وبناء التحالفات، واستشراف مستقبل المجتمع الكردي في ظل التحديات الراهنة.
في النهاية، لا يُقدّم فؤاد حمه خورشيد مجرد كتاب عن العشائر، بل مرآة ينعكس فيها المجتمع الكردي بكل تعقيداته، وانقساماته، وقواه الحية. إنه دعوة لفهم التاريخ من الأسفل، عبر العائلة والقبيلة والعشيرة، حيث تُصنع السياسة والهوية في قلب الجغرافيا المتقلبة.
ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية