اتفاقية الدفاع السعودي- الباكستاني... نحو مخرج استراتيجي لإعادة هندسة الردع الإقليمي

- 21 سبتمبر 2025 - 689 قراءة

في ظل التغيّرات المتسارعة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، واتساع فجوة الثقة بين دول الخليج والولايات المتحدة، تبرز اتفاقية الدفاع المشترك بين المملكة العربية السعودية وجمهورية باكستان الإسلامية -التي وُقّعت رسميًّا في 17 سبتمبر/أيلول 2025م- كعلامةٍ فارقةٍ في مسار التحالفات الإقليمية.

ليست الاتفاقية مجرد وثيقةٍ عسكريةٍ ثنائية، بل يمكن النظر إليها كأحد أوضح المؤشرات على إعادة تموضعٍ استراتيجيٍّ للسعودية، واستعادتها زمام المبادرة في هندسة أمنها الإقليمي بعيدًا عن الاعتماد الكامل على التحالفات الغربية التي أثبتت هشاشتها مؤخرًا.

يأتي هذا التطور في لحظةٍ فارقةٍ، حيث تعيد الدول ذات الثقل الإسلامي ترتيب أولوياتها الأمنية، وتبحث عن شراكاتٍ أكثر اتساقًا مع مصالحها القومية. فهل نحن أمام بداية تشكّل محور ردعٍ إسلامي حقيقي؟ وهل تمثِّل هذه الاتفاقية نقلةً نوعيةً نحو مظلةٍ أمنيةٍ إسلاميةٍ مستقلةٍ؟ أم أنها محاولة وخطوة تكتيكية مؤقتة في سياق لعبة النفوذ الكبرى؟

رغم أن العلاقات بين السعودية وباكستان تمتد لأكثر من سبعة عقود، إلا أن توقيع اتفاقية دفاعٍ مشتركٍ رسميةٍ لأول مرة -في سبتمبر/أيلول 2025م- يُعدّ حدثًا غير مسبوقٍ.

وقد نصّت الاتفاقية بوضوحٍ على أن: "أي اعتداءٍ على إحدى الدولتين يُعتبر عدوانًا على الأخرى"، وهو ما يُعدّ بمثابة نقل العلاقة من الدعم السياسي والعسكري العام إلى التزامٍ أمني مباشرٍ ومُلزِم.

 

تواريخ مهمة بين السعودية وباكستان:

 

- في 1969م، دعمت باكستان السعودية عسكريًّا خلال الاشتباكات مع المتمردين في جنوب اليمن.

- في 1982م، وُقّع اتفاقٌ للتعاون العسكري الفني شمل إرسال آلاف الضباط والمدرّبين الباكستانيين إلى السعودية.

- في 1998م، كانت السعودية من أوائل الدول التي دعمت باكستان عقب التجارب النووية دعمًا سياسيًّا واقتصاديًّا.

- في 2015م، امتنعت باكستان عن المشاركة في "عاصفة الحزم"؛ مما أحدث شرخًا مؤقتًا في العلاقة.

- وأخيرًا، في 17 سبتمبر/أيلول 2025م أُعلِن رسميًّا عن الاتفاقية الأهم، والتي تُدخِل العلاقة في إطار تحالفٍ أمنيٍّ مُلزِم.

 

باكستان: قوة نووية أثبتت جدارتها في الميدان

 

لا يقتصر التحالف مع باكستان على رمزية التعاون الإسلامي أو توازن الردع النووي، بل يستند إلى قدراتٍ عسكريةٍ أثبتت فعاليتها على الأرض.

ففي آخر مواجهةٍ مباشرةٍ بين باكستان والهند، أظهرت إسلام آباد تفوقًا تكتيكيًّا واستخباراتيًّا لافتًا، حيث أثبتت الحرب الأخيرة بين باكستان والهند عام 2025م -والتي كانت الأكبر منذ أزمة كارجيل 1999م- أن باكستان قادرةٌ على الصمود والردع ضد قوةٍ نوويةٍ كبرى، وقد أدارت باكستان المواجهة العسكرية بحساباتٍ دقيقةٍ؛ ما عزز صورتها كقوةٍ إقليميةٍ يُحسب لها حساب، وقد كان العالم -وخاصة الدول الخليجية، وعلى رأسها السعودية- يراقب عن كثبٍ الأداء العسكري والاستخباراتي الباكستاني، ولاحظ كيف تمكّنت إسلام آباد من تحقيق توازن ردعٍ دون الانزلاق إلى حربٍ شاملةٍ. وقد اتخذت الولايات المتحدة من هذه الأزمة موقف المتفرّج مكتفيةً بالوساطة الكلامية رغم الخطر النووي، وهو ما أظهر محدودية الدور الأمريكي حتى في مناطق التوتر الشديد.

وقد أكد هذا الحدث للسعودية أن الاعتماد على واشنطن وحدها لم يعد خيارًا كافيًا، خاصةً في ظل تسارع التغيرات الجيوسياسية في آسيا؛ لذلك بدا من المنطقي تعزيز الشراكة مع باكستان التي تملك جيشًا محترفًا ومجرّبًا، وسلاحًا نوويًّا، وخبرةً في إدارة الأزمات، وموقعًا جغرافيًّا استراتيجيًّا قريبًا من إيران وأفغانستان والهند.

 

هل تدخل السعودية فعليًّا تحت "مظلة ردع نووي"؟

 

رغم أن الاتفاق لا يذكر صراحةً أي التزامٍ نووي، إلا أن توقيعه مع دولةٍ نوويةٍ مثل باكستان أثار تساؤلاتٍ واسعةً حول ما إذا كانت السعودية تُخطّط لـ"استفادةٍ غير مباشرةٍ" من الردع النووي الباكستاني، خاصةً أن الرياض كانت من أبرز الممولين لبرنامج باكستان النووي في الثمانينات والتسعينات. وقد أظهرت وثائق ومقابلات تاريخية مع العالم النووي/ عبد القدير خان الاستفادة المتبادلة بين السعودية وباكستان، حيث إن باكستان بحاجةٍ لدعمٍ اقتصادي، والسعودية تملك فائضًا ماليًّا يمكن توظيفه في كسب حلفاءٍ استراتيجيين، أما السعودية فتبحث عن استقلاليةٍ استراتيجيةٍ عن الولايات المتحدة، وتمثل باكستان جزءًا من هذا التوجه نحو تنويع الشراكات.

 

الأثر الإقليمي والدولي:

 

تحمل هذه الاتفاقية رسالةً إلى القوى الإقليمية والدولية، مفادها أن السعودية تبحث عن بدائل أمنية، وتُحاول بناء محاور دفاعية تستند إلى قوى إسلامية لديها قدرات عسكرية معتبرة.

من شأن هذه الاتفاقية أن تؤثر على سياسات الولايات المتحدة تجاه الخليج، فتُعيد تشكيل كيف يُنظَر إليها كمُموّل أو مُزود أمن بدلًا من الحارس الوحيد.

ومن الجدير بالذكر، أن الاتفاقية تُرسل رسالة ردعٍ غير مباشرةٍ -خصوصًا تجاه إسرائيل وغيرها-، مفادها أن السعودية لم تعد بدون غطاءٍ نووي تمامًا، وإن لم يكن ذلك رسميًّا.

لم يأتِ هذا التحالف في فراغٍ، بل سبقه تآكلٌ متزايدٌ في الثقة الخليجية بالمظلّة الأمريكية، خاصةً بعد فقدان الثقة بعد ضرب قطر تحت الحماية الأمريكية.

أثار الهجوم الإسرائيلي على قطر في ظل وجود قاعدتين عسكريتين أمريكيتين ضخمتين على الأراضي القطرية -قاعدة العديد، وقاعدة السيلية- قلقًا خليجيًّا جماعيًّا، ورأت السعودية أن عدم تدخل الولايات المتحدة لردع أو منع هذا النوع من الهجمات –التي حصلت في ظل مظلتها العسكرية– يُعد مؤشرًا على تراجع جدية واشنطن في حماية شركائها، حتى أولئك الذين يستضيفون قواتٍ أمريكيةً على أراضيهم.

وقد ساهم هذا الحدث في تعميق الشكوك حول جدوى التحالف الأمني التقليدي مع واشنطن، ودفع بعض الدول الخليجية لإعادة تقييم موقفها من الاعتماد الكامل على الولايات المتحدة في ضمان أمنها الإقليمي.

كل هذه العوامل دفعت الرياض إلى البحث عن حلفاءٍ من داخل العالم الإسلامي؛ لتقوية استقلالها الأمني تدريجيًّا.

 

بين الواقعية والطموح:

 

هناك فريقٌ يرى أن هذه الاتفاقية تمثل خطوةً تكتيكيةً ذكيةً تمنح السعودية هامش مناورةٍ أكبر في ظل تراجع الاعتماد على واشنطن، وفريقٌ آخر يعتبرها بداية مسارٍ استراتيجيٍّ نحو بناء محورٍ دفاعيٍّ إسلاميٍّ قد يتطور ليشمل لاحقًا دولًا، مثل: مصر، وتركيا، وربما إيران (في حال تم كسر الجمود السياسي بينهما).

  نستنتج هنا، أن الاتفاقية لا تأتي ضمن "تحالفٍ إسلامي شامل" حتى الآن، بل تظل في إطارٍ ثنائي، لكن قد تكون نواةً لمشروعٍ أكبر.

 

موقف قطر والفرز الإقليمي:

 

في المقابل، سارعت قطر إلى تعزيز اتفاقياتها الدفاعية مع واشنطن بعد قمة الدوحة الأخيرة، مما يعكس تباينًا واضحًا في الخيارات الاستراتيجية بين العواصم الخليجية، ويؤكد أن التكتلات الأمنية في المنطقة لن تكون شاملةً في المدى القريب، بل ستكون قائمةً على محاور وتوجهاتٍ منفصلة في الحماية الأمريكية رغم ضربها من قِبَل إسرائيل تحت حمايةٍ أمريكيةٍ  وإحراجها دوليًّا وبمباركةٍ أمريكيةٍ.

يعد هذا الاتفاق تحولًا لا يمكن تجاهله؛ حيث إن توقيع اتفاقية الدفاع المشترك بين السعودية وباكستان ليس مجرّد "إعلان نوايا"، بل يمكن اعتباره بمثابة خطوةٍ محسوبةٍ بدقةٍ في مسار إعادة رسم معادلة الردع الإقليمي، وسواء تطوّرت هذه الخطوة إلى شراكةٍ نوويةٍ غير معلنةٍ أو ظلت في إطارها التقليدي، فإنها تؤكد أن السعودية تُعيد تموضعها ببطءٍ ولكن بثبات.

نتمني أن يكون هذا الاتفاق رسالةً إلى العالم -وإلى واشنطن تحديدًا- بأن الاعتماد الحصري على الغرب لم يعُد خيارًا مطلقًا، وأن زمن الهامش المحدود في القرار الاستراتيجي قد ولّى.

رغم أن الاتفاقية وُقّعت رسميًّا بين السعودية وباكستان فقط، إلا أن مصر تمثل ضلعًا محوريًّا في أي هندسةٍ أمنيةٍ إسلاميةٍ جديدةٍ، وذلك لعدة أسباب موضوعية منها أن مصر هي أكبر قوةٍ عسكريةٍ نظاميةٍ عربيةٍ من حيث العدد والتجهيز، كما أنها تملك علاقاتٍ قويةً مع باكستان منذ عقود، وتعززت مجددًا عبر لقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف في قمة الدوحة (أغسطس/ آب 2025).

خلال القمة نفسها، أطلقت مصر مبادرةً لدراسة إنشاء آليةٍ موحدةٍ لحماية المصالح الاستراتيجية للدول الإسلامية، وهو ما رآه مراقبون محاولةً لطرح "رؤية مصرية–باكستانية" لأمنٍ إسلاميٍّ جماعيٍّ غير خاضعٍ تمامًا للمظلة الغربية.

إن التحالف الدفاعي بين السعودية وباكستان قد يكون خطوةً أولى، لكنه في حد ذاته لا يكفي لمواجهة التحديات الكبرى التي تهدد استقرار المنطقة الإسلامية.

إن الدروس المستخلصة من التجربة الغربية –وتحديدًا حلف الناتو– تؤكد أن الاختلافات العقائدية أو الثقافية لا تعيق بناء تحالفاتٍ استراتيجيةٍ فعّالة، متى توفرت الإرادة السياسية والمصالح المشتركة، فحلف الناتو يضم دولًا تختلف في الدين، واللغة، والعرق، وحتى بعض التوجهات السياسية، لكن ما يجمعها هو رؤيةٌ أمنيةٌ واقتصاديةٌ موحدةٌ ومصالح مصيرية مشتركة.

إذن، إذا استطاعت أوروبا أن تبني قوةً سياسيةً وعسكريةً موحدةً رغم كل هذه التباينات، فلماذا لا تستطيع الدول الإسلامية الكبرى أن تتجاوز خلافاتها لبناء تحالفٍ إقليمي متماسك ومستقل؟

 

حلم مشروع تحالفٍ إسلامي واقعي:

 

المنطقة اليوم بحاجةٍ ماسّةٍ إلى تحالفٍ حقيقيٍّ يضم القوى المؤثرة، مثل: السعودية وباكستان (العمق المالي والعسكري النووي)، ومصر (قوة عسكرية نظامية وتاريخ استراتيجي عميق)، وتركيا (قوة صناعية وعسكرية ونفوذ إقليمي واسع)، وإيران (قوة ردع وصاحبة عمق جيوسياسي كبير)، وربما تنضم لاحقًا دولٌ، مثل: الجزائر، وماليزيا، وإندونيسيا، وحتى بعض الدول الإفريقية الناهضة.

هذا التحالف لا بد أن يكون مستقلًّا عن الاستقطابات الدولية، ومتوازنًا لا يخضع لهيمنة دولةٍ على أخرى، وقائمًا على مصالح استراتيجية مشتركة تتمثل في أمنٍ بحريٍّ في البحر الأحمر والخليج وبحر العرب، وأمن غذائي واقتصادي وطاقوي، وتنسيقٍ سياسيٍّ ودبلوماسيٍّ على الساحة الدولية، وردعٍ استراتيجيٍّ ضد أي محاولاتٍ للهيمنة أو التقسيم أو الاحتلال.

إن المنطقة لا تحتاج إلى "ناتو إسلامي" تابع بل إلى مشروع تحالفٍ إسلامي مستقل وقوي ومتوازن، يُعيد التوازن، ويكسر الهيمنة، ويحمي المصالح الجماعية للمسلمين. حلم نتمني أن يكون واقعًا.

ـــــــــــــــــــــــــ

 

* دكتوراه في العلوم السياسية

 

النشرة الإخبارية

اشترك في النشرة الإخبارية

ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية

معلوماتك فى امان معنا! إلغاء الاشتراك في أي وقت.