وحدة الصف الكردي... مسؤولية تاريخية

- 21 يونيو 2025 - 6 قراءة

في السابع والعشرين من فبراير/ شباط الفائت، أطلق القائد الأممي عبد الله أوجلان من سجن إمرالي دعوة تاريخية بعنوان "نداء السلام والمجتمع الديمقراطي"، دعا فيها إلى نبذ الصراعات بين أبناء المكوّن الكردي، وإعلاء قيمة التعايش السلمي، وإعادة صياغة العلاقات السياسية والاجتماعية على أسس الشراكة الديمقراطية.

واستجابةً لهذا النداء، بعد شهريّن من إطلاقه، عُقد في السادس والعشرين من هذا الشهر، مؤتمر "وحدة الصف والموقف الكردي" في مدينة القامشلي السورية، بهدف توحيد موقف القوى السياسية الكردية في سوريا.

انعقاد هذا المؤتمر، من أجل توحيد الصف الكردي في سوريا اليوم، ليست ترفًا سياسيًا أو مطلبًا قومي الطابع، بل أصبحت ضرورة وجودية تفرضها التحديات المتعاظمة. فالمشهد السوري الراهن لا يزال مأزومًا، رغم سقوط نظام بشار الأسد، وتتكالب التدخلات الخارجية عليه من كل فج عميق، من أجل تفتيت ما تبقى من وحدة مجتمعية، بينما يقبع الشعب السوري، بكل مكوناته بمن فيهم الكرد، بين مطرقة الفقر وسندان الاستبداد.

في ظل هذا الوضع المتأزم، يتحمّل الكرد، بوصفهم أحد المكونات الأصيلة في البلاد، مسؤولية تاريخية مضاعفة: أولًا تجاه قضيتهم القومية، وثانيًا تجاه مشروع التحوّل الديمقراطي في سوريا. لذا فإن نجاح الكرد في توحيد رؤيتهم ومواقفهم هو نجاح لكل السوريين الذين يحلمون بوطن حر يتسع للجميع، وطن تعددي، ديمقراطي.

ويمثل توحيد الصف الكردي، في حال تحققه، عامل قوّة تفاوضيًا، ولا سيما أن المؤتمر الذي أُقيم بحضور 400 شخصية سياسية من سوريا والعراق وتركيا، طرح رؤية سياسية معتدلة ومتوازنة تُعزز القبول المحلي والدولي.

وعلى الرغم من أن هذا السيناريو يبدو الأكثر عقلانية، فإن تحقيقه يصطدم بعدة عوائق، منها غياب الثقة في الإدارة الجديدة، ووجود تباين كبير في التصورات حول شكل النظام السياسي، فضلًا عن وجود فيتو إقليمي من تركيا، لأي مشروع يمنح الكرد شرعية مؤسسية في الشمال السوري. وهو سيناريو قابل للتحقق على المدى المتوسط، لكنّه يتطلب تنازلات من الطرفين، وضمانات دولية واضحة.

وقدّم إقليم كردستان العراق دعمًا سياسيًا وإعلاميًا قويًا للمؤتمر، انطلاقًا من اعتبارات قومية ترتبط بتعزيز دور الإقليم ضمن المعادلة الإقليمية والدولية، ودعم الإقليم للمؤتمر يعكس رغبته في تعزيز النفوذ الكردي السوري ضمن معادلة كردستانية أوسع، لكن هذا الدعم يصطدم بحساسيات تركيا من تقارب أي مكون كردي سوري مع "حزب العمال الكردستاني"، الأمر الذي يهدد مساعي الهيمنة التركية على البلاد.

بناء التفاهمات الوطنية

يمرّ الشرق الأوسط الآن بمرحلة تحوّلات جذرية، على مختلف الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وتُعد القضية الكردية أحد أبرز الملفّات التي تشهد تطوّرًا ملحوظًا في خضمّ هذه التحوّلات التي تجري في المنطقة؛ فالكرد يُشكّلون أكبر قومية بدون دولة، وهم يتوزّعون بشكل رئيسي بين كلّ من تركيا وإيران والعراق وسوريا، ومع تعاظم دور الكرد في السنوات الأخيرة في سوريا، وخاصة بعد إسقاط النظام، ازدادت أهمية تحقيق وحدة الصف الكردي، حيث يواجه الكرد تحدّياتٍ سياسية وعسكرية متزايدة، وهو ما يجعل هذه الوحدة ضرورة استراتيجية لمواكبة المستجدّات والمتغيّرات الراهنة.

ويتعرّض الكرد في سوريا لتحدّيات متعدّدة، أبرزها التهديدات التركية المتكرّرة من خلال الفصائل العسكرية التي تأتمر بأجنداتها. وفي مواجهة هذه التهديدات، تأتي وحدة موقف الكرد وخطابهم المتزن بمثابة قوة سياسية وعسكرية أكبر، وهذا ما سيعزّز من موقف الكرد في مستقبل سوريا والمنطقة عامة، وستجعلهم شريكًا سياسيًا موثوقًا وقادرًا على لعب دور إيجابي في المنطقة، سواء مع القوى الإقليمية أو الدولية، كما ستعزّز فرص الدعم الدولي للقضية الكردية.

وممّا لا شكّ فيه أنّ وحدة الصف الكردي ستعزّز دورهم كعنصر استقرار وأمان، في منطقة تعاني من صراعات مستمرة منذ القدم؛ ومن خلال وحدتهم، يمكن للكرد أن يصبحوا شريكًا استراتيجيًا للقوى الفاعلة في المنطقة، سواء في مكافحة الإرهاب، كما حدث في تجربة محاربة تنظيم "داعش"، أو في بناء مستقبل سياسي مستقرّ لدول المنطقة؛ أي تولّي دور إقليمي فاعل في حال تم التوصل لحلّ القضية الكردية بشكل كامل في الشرق الأوسط؛ فوحدة الكرد ستضمن الحفاظ على هويتهم الثقافية والسياسية بطبيعة الحال، خاصة في ظلّ محاولات طمس تلك الهوية من قبل بعض القوى الإقليمية.

ويتطلّب تحقيق هذه الوحدة من القوى الكردية المؤثّرة، جهودًا شجاعة وقرارات تاريخية، تتجاوز المصالح الحزبية الضيّقة لصالح الهدف الأسمى للكرد عامةً، وهو حلّ قضيتهم والعيش بحرية وسلام مُستدام مع الشعوب والمكوّنات المتعدّدة والمتنوّعة والمختلفة ثقافيًا كنواة لشرق أوسط ديمقراطي.

جهود شجاعة وقرارات تاريخية

بناءً على تلك المعطيات، فإن الكرد بحاجة لاستراتيجية ترتكز على دعائم مترابطة وتصوّر شامل لتحقيق وحدة الصف، وتبدأ بفتح قنوات حوار جديدة ومباشرة وشفافة بين مختلف القوى الكردية السورية؛ ليشكّل هذا الحوار أساسًا لتقريب وجهات النظر، وبناء "جسور الثقة" بين الأطراف الكردية.

غير أن تحقيق هذه الثقة لن يتم إلاّ من خلال إنهاء الحملات الإعلامية المتبادَلة، والابتعاد عن الخطاب التحريضي أو الموجّه ضدّ الأطراف الكردية الأخرى، والاتفاق حول اعتماد خطاب وحدوي جامع يركّز على المصالح المشتركة، والتوقّف عن اللجوء إلى أطراف خارجية للإضرار بالطرف الآخر، كما يمكن الاتفاق حول ضمانات سياسية أو قانونية بين الأطراف؛ لضمان التزام كلّ طرف بنتائج الحوار والتفاهمات.

وينبغي، وفق المراقبين، أن يكون الحوار الكردي- الكردي شاملًا، بحيث يضمّ جميع القوى السياسية الكردية دون إقصاء لأي لحساب طرف آخر، وأن يجري برعاية أطراف محايدة وإيجابية إن لزم الأمر، لتجاوز الخلافات الموجودة وبناء رؤية مشتركة، باتت مؤشراتها واضحة الآن على المستويين الكردستاني والدولي.

في هذا السياق التصالحي الكردي، يمكن تأسيس مجلس تنسيقي يضمّ ممثّلين عن جميع الأحزاب والقوى السياسية الكردية، للعمل على إدارة القضايا المشتركة وتجنّب النزاعات المباشرة، ووضع آليات واضحة لإدارة الاختلافات السياسية وحلّها بشكل سلميّ، مع احترام التعدّدية السياسية داخل البيت الكردي، واعتبارها ثقافة سياسية اجتماعية لابدّ من التعايش معها.

ويمكن للمؤسّسات المدنية والمجتمعية الكردية، والأكاديميين والمثقّفين، لعب دور في تقريب وجهات النظر وخلق حالة من "الضغط الإيجابي" على الأطراف السياسية للوصول إلى توافقات.

وبالإمكان تحقيق ذلك الهدف، من خلال إشراك القواعد الشعبية في تنظيم حوارات مفتوحة، مع عقد اجتماعات جماهيرية مؤثّرة، تبحث في قضايا اجتماعية واقتصادية وسياسية لتعزيز الوحدة الشعبية؛ مّا يخلق ضغطًا على القيادات السياسية لتجاوز خلافاتها الصغيرة.

ولا جدال، أخيرًا، أن نجاح الكرد في الوصول إلى موقف موحد لا يعزّز فقط نضالهم الذاتي، بل يقدّم نموذجًا حيًا للسوريين جميعًا عن إمكانية بناء التفاهمات الوطنية، بعيدًا عن الإملاءات الخارجية أو إرث الصراعات الدموية. إن وحدة الصف الكردي تعني، بالضرورة، تكريس مبدأ الإرادة الشعبية الحرة، الذي هو جوهر كل مشروع ديمقراطي ناجح.

إن توحيد الصف الكردي، اليوم، إنما هو ركيزة أساسية في بناء وحدة الصف الوطني السوري. فكما كان الكرد جزءًا من معاناة الوطن، فهم اليوم جزء لا يتجزأ من مسيرة خلاصه وبنائه على أسس الحرية والديمقراطية والتعددية.

 

*رئيس مركز الخليج للدراسات الإيرانية

النشرة الإخبارية

اشترك في النشرة الإخبارية

ابق على اطلاع على النشرة الإلكترونية

معلوماتك فى امان معنا! إلغاء الاشتراك في أي وقت.